في منطقةٍ وسطى بين الكُتب المقروءة، كتلك التي كانت تُتْلى على مسامع المكفوفين، وبين البَرامج المَسموعة التي تبثّها الإذاعات، يقع البودكاست نصًّا ثقافيّا فتيًّا، لا يزال يجهد لاجتراح حيِّز جديد، يستقلُّ بذاته في كَوْن السرديّات المختلفة التي تُحيط بنا. فليس البودكاست الثقافي مجرَّد تحويل لمضمون مَسموع سبق أن أُذِيع على القنوات السمعية - البصريّة، وإنما هو محتوًى فكريٌّ صُنِع خصّيصًا ليُقرأ ويُستعاد مسجّلًا على مسامع الجمهور، وهو مُنتَجٌ فقط لأداء هذه الوظيفة.
تأتي تسمية هذا الجنس المستحدَث تعريبًا للفظة الإنكليزية podcast وهي مُؤلفة من قسميْن: "بود" التي انتشرت بعد اشتهار جهاز أيبود (iPod) الذي تسوّقه شركة "آبل" وتعني "الجَيب" في إشارة إلى صِغر هذا الجهاز، وإمكانية وضعه في أيّ جيبٍ، ثم مِن "كاست" وهي تصغير مفردة Broadcast بمعنى "بثّ". وبات الاسم يُطلق على هذه النصوص المقروءة والتي يمكن تنزيلها وشحنها بعد تجميعها في إحدى المنصّات الرقميّة. وتجري حسب نسق السّرد أو الوصف أو الحوار.
ذلك أنّ أهم خصائصها البنيويّة أنها تُلقى على المسامع نسيجًا، ولذلك تُراعى في كتابتها كما في إلقائها، سمات الخطابة والأداء كتغيير النّبرة والوقف والتّشديد وغيرها من الآليات الصوتيّة الهادفة إلى إبلاغ مُحتوى خطابي يشدُّ القارئ بطريقة إلقائه، ثم بمحتواه من حيث هو كلام في موضوع واحدٍ، يجري تحليله على فقراتٍ متسلسلة تربط بينها مفردات العطف ومبادئ الاتساق المنطقي لإيصال رسالة أكاديمية أو ثقافية أو لمجرّد التسلية والتوعية.
تجربة صحافية ما زالت تخطو خطواتها الأُولى عربياً
وتعتمد نصوص البودكاست على مبدأ التشويق لشدّ السامعين إليها، لأنّ الملل الذي قد يدبّ أثناء السّماع أسرع من ذلك الذي يدبّ أثناء القراءة. مما يجعل مهمّة أسْر السّامع أعقد من أسر القارئ. وبما أنّ فترات الاستماع الواعي، لا الاستماع العرضي، لا يمكن أن تتجاوز بضع دقائق، على عكس القراءة التي يمكن أن تستمرّ لفترة أطول لدى البالغين، توسَّل هذا الجنس بطاقات التشويق وصُور البيان وآليات السرد التي تؤثّر في الانتباه وتشدُّه. ولذلك يبدو بناء هذه النصوص أصعب وصنعتها أدقُّ.
وغالبًا ما يقوم البودكاست على وحدة الصوت لا على تعدديّته، إلّا إذا كان حوارًا، وهو ما يضمن قراءة متّصلة لكن غير رتيبة للنصّ، كأنما يتوجّه تاليها إلى مستوى عميق من الوعي، فينصبُّ الاهتمام على الموضوع وعلى تموّجات الإلقاء من أجل فَهْم المحتوى، وإنْ لم يكن واقعًا في دوائر انشغالاتنا المعرفيّة.
ولعلّ تردُّد إنتاج البودكاست بين استعمال أصوات عديدة ممتزجة أحيانًا بالموسيقى وأحيانًا من دونها، وبين وروده بخلفيّة إيقاعية أو بغيابها، يدلّ على أنّ معالم هذا الجنس الخطابي لم تتّضح بعد، ولا يزالُ كُتّابه يجوّدون طرقَ تأليفها.
وهكذا، فأهمّ خصوصية تكمن في أنّ البودكاست ليس نصًّا مكتوبًا يُقرأ، بل هو نصّ كُتب أساسًا ليُقرأ، ولذلك لا بدّ من صياغته باعتباره قولًا وحكايةً، أي ضربًا من السّرد الصوتيّ، يتوسّل بكل الطاقات النغميّة والإيقاعّية التي يتوفّر عليها الكلام، ومع ذلك قد يستفيد عرضًا من تقنيات "المكتوب"، بوصفه تسلسلًا منطقيًّا يتجلّى عبر التّحرير والتحليل.
ومن بين منصات البودكاست التي تجسّد هذه الخصائص تلك التي أنشئت بفرنسا سنة 2022، واسمها Podcast Story وهي تُغذّى بشكل دائم ومنتظمٍ. وتقوم بُنية هذه المنصّة الرقميّة على تقسيم محوريّ يتضمّن هذه النوافذ (تاريخ، ومشاهير، وسياسة، وجرائم، وسينما...) وتحت كلّ محور، نجد مجموعة من التسجيلات التي تدوم كلّ واحدة منها عشرين دقيقةً وتتبع تقريبًا نفس الخطّة التحريرية: مقدّمة تشويقية تضع الظاهرة المدروسة في سياقها العام، ثم استقصاء تاريخيّ لها عبر رَسْم تطوّراتها ومآلاتها، وخاتمة بسؤال يَفتح الآفاق. وقد صيغت كلّها في لغة أدبية سلسة، تتغيّر فيها نبرات الإلقاء بحسب تطوّرات السرد وتحوّلات المعنى، وقد تتخلّلها نكاتٌ ساخرة أو إشارات نقدٍ لاذعة.
جنسٌ خطابي يستفيد من المكتوب عبر التحرير والتحليل
ولكنْ من المؤسف أنّ تُركّز بعض هذه المقاطع على قضايا الجنس والعنف والإثارة، وقد يكون ذلكَ مقصودًا ضمن استراتيجيتها التجاريّة، حيث يُستهلّ كلّ مقطع بِوَصلة إشهارية. ومع ذلك، يظلّ هذا الموقع أداة تثقيفية مهمّة تمدّ السامع بعشرات النصوص، وله أن يختار منها ما يتلاءم مع ذائقته.
ولا شكّ في أنّ مواقع الصحف العربية الكبرى والقنوات الإخبارية تتضمّن كلها مقاطع بودكاست. ولكنّ الانطباع العام أن هذا القطاع لا يزال يخطو فيها خطواته الأولى، ويتلمَّس طريقه بين السّرد ومجرد التسجيل الصوتي للحوارات والمقالات الإذاعيّة، ولم يرتقِ بعد إلى مستوى الجنس المعرفي، أو الوسيط الثقافي ذي الخصائص المستقلّة، والوظائف الواضحة، وأُولاها أنّه نصٌّ مَحكيٌّ، تكاملت عناصره ضمن رسالة إعلامية تنهض بها أقلامٌ بارعة وأصواتٌ معبّرة.
وهكذا، يقوم البودكاست نموذجًا على إمكانية توظيف الوسائط الرقميّة، لخدمة الثقافة في مقاومتها اليوميّة لتفاقُم ظواهر الاستهلاك وانتشار المعلومات السطحيّة والتفاهات الفارغة، سعيًا وراء إيصال مضامين تاريخية وفكريّة إلى أذُن السامع وعرضها عليه في زحمة الأصوات الأخرى وصخب السلطة وصراخ الدُّعاة. البودكاست مساحة تلاوة هادئة ينساب من خلالها النص عبر الأذن التي تعشق قبل العين القارئة، حين تَستجمع حدود موضوعها الذي ترسمه عبر تلاحُق الكلمات المنطوقة، كأنما تعود الثقافة الى طبيعتها الشفوية الأولى، حيث كانت كلامًا يُلقى على طُلاب المعرفة "المشّائين" مع أستاذهم، أو روايةً يحدّث بها شيخ في حلقة مريديه. سحر الكلمة المنظومة يعود بنا إلى براءتها الأُولى ونضارتها البِكر، فتلِجُ الأذن بكبسةٍ واحدة لتفتح الوعي على الكون السردي فيسبح على نبرات الكلمات ونغماتها.
نشأت لديّ قناعة، بعد معاشرة هذه النصوص أيامًا، مفادها أنّ هذا الجنس الخطابي أقرب إلى الثقافة العربية العريقة، بل لعلّه أحد وجوهها الأصليّة حين كان للكلمة المنطوقة نفوذُها، حتى أنّ القصيدة الطويلة تسمّى "كلمة"، وكانت جماليّة الإلقاء من مناقب الشّاعر الفصيح والخطيب المِصقع. وبسبب هذه العراقة، نقترح على المختصّين في توليد المصطلحات أن يعثروا على مقابل عربيّ لهذا الوسيط، مثلما عثروا على "تغريدة"، و"مُدوّنة"، و"صانع محتوى"، وغيرها من رشيق الاستحداث. فلن تعجز هذه اللغة عن ترجمة المصطلح بمثل "بثّ"، و"بثيثة"، و"مَبثّة" إلى جانب "تدوين صوتي"، و"بثّ جيبي"، أو حتى "جيْبَث" أو غيرها.
والأمل ألّا تضيع هذه النصوص في زحمة النتاج الاستهلاكي وتصبح هي الأُخرى خاضعةً لقوانين السوق وتموّجات العَرْض والطلب، فتنأى عن وَظائف التثقيف وتتخلّى عن الإمتاع والمؤانسة التي هي غاية الفنّ الأصيلة، مهما تنوّعت الوسائط والفُصول، والفنّ في براءته الأُولى تعبيرٌ بالأصوات المؤلّفة والأنغام الراقصة، ولكلٍّ قصة تُروى...
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس