يكتبُ الكتّاب نصوصهم وهم يتأمّلون الواقع للخروج بحكاية عنه، أو ينصتون إلى أزماتهِ للخروج بحكايةٍ منهُ. وفي التصوّرات الإبداعية كافةً يبقى الواقع مادة الكتابة التي يبدأ منها الكتّاب في تشييد بنائهم الفنّي؛ يحاكونهُ، يتقاطعون معه أو ينتهون إليهِ.
كون الواقع يحدث خارج إرادة الإنسان بصورة عامة، فهو غير مُطالَبٍ بالتجسّد في شكلٍ مُقنِعٍ بالنسبة إلى من يتأمّله ويقرأ أحداثه. فالقوانين التي تحكم الواقع هي قوانين في السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع، وفي منطق الحياة. لكن الواقع غير مُطالب فنياً بأن يكون ذا شكلٍ أو مَغزى، ولا يجدُ بأحداثهِ الغزيرة المترامية ضرورةً لترتيب قصةٍ ما على نحو يحمل رسالةً إلى المتلقي. الواقع حُرٌّ من الآليات المفروضة على الكتّاب كي يصوغوا مادتهم ويخاطبوا القرّاء.
ولربما أكثر العيوب التي يوجّهها النّقاد إلى قصيدة ما، إلى رواية أو قصة قصيرة بأنّها مفتعلة. فالقارئ بصورة عامّة لا يتعاطف مع إنتاجٍ يبدو غير تلقائي، أو مع إنتاجٍ يبدو مُركَّباً على الحياة ومَفروضاً عليها، ولا يتساءل القارئ كثيراً حيال واقعية ما يقرأ، إذا كان ما يقرأه مقنعاً ويُخاطِبُ وعيهُ بالوجود من غير أن يبدو مُفْتَعلاً.
يُشرك غسان كنفاني قارئهُ في احتمالاتٍ عديدة لنهاية القصة
الافتعالُ في الكتابة أحد العيوب التي يسوّغها النّقاد من أجل تفضيلِ نصٍ على آخر. ولغسان كنفاني (1936-1972) قصة بعنوان "البطل في الزنزانة" تقدم نموذجاً عبقرياً لمسألة الافتعال في الكتابة الأدبية، وقد وردت القصة ضمن مجموعته "القميص المسروق". قصة كنفاني حكاية بسيطة عن مستأجر متورّط بمنشورات ضد الحكم في الأردن، تشي بهِ صاحبة المنزل ويزّج به في السجن محروماً من الطعام والتدخين.
يعرف كنفاني هذه القصة بحوادثها البسيطة، وهي قصة لا تملك نهاية في الواقع. فيضطر كنفاني للبحث عن نهاية تخدم القصة فنياً، وتنصف الرجل الذي لديه قضية، وفي غمرة البحث عن نهاية تخدم القصة، وتحافظ على ما بُذِلَ من إنسانية البطل في سبيل "قضية الأمة العربية"، يشتكي كنفاني من تهمة الافتعال في الأدب ويناقشها. إذ يجد أنّ النهايات العنيفة التي يقترحها أصدقاء الكاتب، والتي تنصف البطل؛ مثل أن يهرب الرجل من السجن ويخبر السيدة بأنّها قد سبّبت ألماً لإنسان آخر، ثمّ يتركها لتأنيب ضميرها. أو أن تكتشف السيدة بأنّها تحبّ الرجل، فتقدم له الطعام والسجائر، لكنه سيرفض، لتشعر السيدة آنذاك بجريمتها. يجد أنّها نهايات مفتعلة، لأنّ احتمالات توبة السيدة وإِنصاف الرجل غير واردة في الواقع. ليقدم كنفاني في النهاية تصوّراً واقعياً لخاتمة القصة، إذ يعيدُ الرجلَ إلى قضيتهِ ويعيد السيدة إلى مكائدها من غير أن ينتصر لذات البطل.
إنّه بذلك لا يتدخّل في مسار الشخصيات، ويستخدم القصة نفسها لتطبيقِ نظرياتهِ في الافتعال، إذ يوافق على الافتعال الذي يجعل القصة تبدو طبيعيةً، فيما يرفضه عندما تفتقر القصة إلى الإمكانية واقعياً. ويتساءل تساؤلاً مفتوحاً حيال بقاء القصة بصورتها الواقعية من غير تدخل فني أو إضافة وتزويق، على الرغم من أنّها تبدو غير مكتملة من منظور القارئ. ومن جهة أُخرى يشرك كنفاني قارئهُ في احتمالاتٍ عديدة للقصة أثناء تجريبهِ بناء حكايةٍ مكتملة البناء الفني، مع بقائها في مستوى القضية التي تعذّب البطل. أما بالنسبة إلى الافتعال الذي كان مطلوباً إحداثهُ من قبل أصدقاء الكاتب، والذي لم يلجأ كنفاني إليهِ، فكان سيحرف سلوك الشخصيتين عن طبيعتهما.
باستخدام قصة قصيرة يعطينا الكاتب الفلسطيني درساً عن استخدام الافتعال، إذ لا يمكن للشخصيات أن تخرج عن واقعها ومسار نموّها، من غير أن تظهرَ شخصياتٍ مُفتَعَلة، وبالتالي لا تلمس أعماق القارئ.
* كاتب من سورية