الإسفلت والمطر

04 فبراير 2023
مظاهرة في "الجامعة الأردنية" ضد التطبيع وغزو العراق، 9 كانون الثاني/ يناير 2003 (Getty)
+ الخط -

ركض بائع العلكة ليتوارى من حبَّات البَرَد، فوقف مرتبكاً أمام أحد المحلَّات، لكنَّ أحداً من الداخل انتهره، فالتجأ إلى شجرة في الشارع وقف تحتها.

عندما تهطل الأمطار بغزارة تفرُّ البشاعة من الشارع، فلا يُرى سوى ظلال الأشياء التي تبدو وكأنها خلف زجاج ضبابي، ولا يمكن حينها أن يتجوَّل أحدٌ سوى أولئك الذين لا يمكن إلا أن يكونوا هناك: متسوّلة حدباء، شخص ما يبحث عن نفسه بين حبّات المطر، وبائع علكة صغير يحلم أن يكبر قليلاً ليبدّل ما يبيعه علّه يشتري درّاجة هوائية:

ـ أحبُّ المطر، لكنني أكره البرد، لأنه يشعرني بالجوع والحزن.

عندما توقّفت زخَّات المطر، تحرّكت الأشياء، فانطلق بائع العلكة مسرعاً وقطع الإشارة الضوئية باتجاه الجامعة.

لقد ذهب الصّيف، واختفت معه علب البيبسي وقناني الماء الفارغة، وحتى بعض الأطعمة التي أجدها في الحاويات ولا أعرف اسمها. أستطيع أن أميّز طبيخ أمي من رائحته وقبل أن أدخل البيت، لكن ما أجده في حاويات هذا الحيّ لا أعرفه حتى عندما أملأ بطني منه.

عندما تهطل الأمطار بغزارة تفرُّ البشاعة من الشارع

سأدخل اليوم إلى الجامعة، لقد قال لي سلمان إنه ما زال يجد في الحاويات الكبيرة زجاجات ماء وأحياناً تنكات سمنة كبيرة أيضاً.

عندما وصل البائع الصغير إلى مدخل الجامعة لاحظ اكتظاظاً عند بوابتها الشمالية لكنّه انطلق أمام العابرين:

ـ اشتري علكة ولْ... علشان عيون الأمورة... الله يخليلك إياها!

يزهو الشاب فيتباطأ في مشيته ويشتري، تأخذ الفتاة علكتها بقليل من الخجل.

لكن هذه الخدعة لا تفلح مع الجميع، فالبعض يكشّر في وجهي ويقول:

ـ طير ولَهْ... انقلع!

لا بدَّ أنهم باعوا شيئاً ما حين كانوا في مثل سنّي.

البيع أمام الجامعة مريح، ومربح أكثر من التجوّل في المجمّعات والقفز من باص إلى آخر.

حاولت مرّة أن أبيع جرائد، لكنني عندما ذهبت إلى الكشك وطلبت كمية من صاحبه، نهض بهدوء خلف طاولته، ومال جهتي بنصفه الأعلى متكئاً على الطاولة وحين أصبح قريباً منّي صرخ في وجهي:

ـ إقلب وجهك...!

أولاد الحارة قالوا لي إنّه لا بدَّ أن يضمنني عنده أحدٌ كبير مثل أبي، وحين عدت إلى البيت وأخبرته بذلك، رشف من كأسه رشفة، ثم تجشأ وبصق عليّ.

إذا بعت اليوم كل ما لديّ سيكون معي ثلاثة دنانير كاملة، لكنّ ما أكسبه في تجوالي وعراكي يأخذه أبي ويسكر به، أو يعطيه لزوجته الثانية لتشتري به فساتين للنوم، أما أمّي فلا تفعل شيئاً سوى الدعاء وتحضير الحجب.

جسَّ البائع الصغير جيبه فاطمأنَّ إلى ما تجمّع لديه من نقود، وعزم على تنفيذ خطّته.

هرول ناحية الجهة الشرقية للجامعة، حيث نادراً ما تصل عيون الحرس، وقف أمام السور العالي، ثم نظر خلفه نحو مبنى الدفاع المدني، وحين اطمأن أنّ لا عين تراه رمى ما تبقى من علكة داخل القميص وراح يتسلّق الجدار الحجري، في نهايته قاومته الأسلاك الشائكة فعبر من خلالها بحذر وبطء ثم قفز إلى الأرض.

إذا بعتُ اليوم كل ما لديّ سيكون معي ثلاثة دنانير كاملة

مشى بضع خطوات متلفتاً حوله، فانتبه خلفه لطالبين يفعلان مثلما فعل، لم يفهم لماذا يلجأ الكبار إلى دخول الجامعة بنفس طريقته، حين تجاوزاه سمع أحدهم يقول للآخر:

ـ كل شي جاهز أكيد...؟!

ـ كل شي... اليافطات والإعلام والسَّماعة.

اجتهد الصغير أن يمشي بحذر كي لا يراه أحدٌ من الحرس، وحين وصل إلى الحاويات الكبيرة التي تقع عند المطابخ المركزية، توارى بينها، نظر إلى غرفة الحرس، فرأى ثلاثة منهم يتجوّلون بلباسهم الرسمي:

ـ يا روحي! زلم طول بعرض ولابسين زيّ الكشّافة!

لاحظ الصغير أنّ أبا شنب بينهم، فتذكّر حادثة الصيف، كان يومها قد استولى على حاويتين لوحده، ثم اتّجه إلى الثالثة وطرد الآخرين عنها، وما إن مدّ عنقه داخلها حتى فوجئ بمن يمسكه من رقبته وينهال عليه ضرباً، لقد كان أبا شنب الذي جرَّه إلى غرفة زجاجية تقع أمام البوابة ورفع سماعة الهاتف ثمّ هدّده بأنّه سيسلمه للشرطة إذا رآه هنا مرَّة أخرى:

ـ عندما أكبر سأشتري تنك نضح وأدوس من يقف في طريقي!

تسلّق البائع الصغير إحدى الحاويات الكبيرة فراعه ما شاهد على امتداد ناظريه؛ لم يكن الاكتظاظ عند مدخل الجامعة فقط، بل رأى مجموعات كبيرة تتجمَّع في الداخل، ثمّة ما ينذر بالخطر، وفي لحظة ما تفجّر الصمت الحذر، فانطلق أحد الطلبة يهتف:

- وحِّد صفّك.. وحّد صفّك.


وراحت مجموعة من الطلبة تتجمّع تباعاً وتردّد نداءه بصوت جماعي مهيب:

ـ وحِّد صفّك... وحِّد صفّك.

تحركَّت الجموع بتماوج وهي تغنّي:

ـ نزلنا ع الشوارع      رفعنا الرايات
غنينا لبلادي             أحلى الأغنيات 
غنينا للحرية            للأرض العربية  

وتحرّك رجال الكشّافة أيضاً مع حركة الجموع، لكن بحذر وترقب، كان في أعينهم ما يشي بالانقضاض.

أحد الطالبين اللذين قفزا عن السُّور أشار بيده للجموع ثم راح يتحدّث عن الأرض والدم والشهداء. أحسّ البائع الصغير بالقشعريرة والخوف:

ـ الأرض إيش؟ كل الدنيا يعني؟

حين كنت في المدرسة كنّا نعطّل في عيد الفطر والأضحى، وكان الأستاذ يأخذنا لزراعة الأشجار في يوم الشّجرة، لكني لا أتذكر أنه تكلّم لنا عن يوم الأرض، كلّما سمعت سيرة الموت، تذكرت خالي، أنا لا أعرفه لكن أُمي تذكره دائماً وتبكي.

تحرك المتظاهرون ضمن دوائر متداخلة، وحملوا اثنين أو ثلاثاً على الأكتاف فراحوا يتناوبون الهتاف بحماسة متزايدة، في حين كان رجال الكشّافة يرافقون المسيرة بتحفّز، وحين رآهم الصغير بدا أنهم مقبلون نحوه، انقبضت معدته وتوارى في دوّامة المتظاهرين:

ـ أبو شنب عيونه مثل عيون الصقر

حين سنحت الفرصة قفز البائع الصغير مسرعاً، وهرب باتجاه البوابة مباشرة. اندفع إلى الشارع خائفاً وهو ينظر إلى الخلف ويفتش بعينيه عن شارب أشقر.

يحدث أحياناً أن تتوقف السيارات فجأة، لكنها حين ذاك تحدث صريراً عالياً يقذف القلب خارج الصدر.

مع اصطدام المطر بالأرض، ينغسل الإسفلت من الغبار والأوراق والخيوط الحمراء.


* شاعرٌ وكاتب وصحافي أردني من مواليد عام 1970. يعمل جلعاد الآن مديراً للتحرير في موقع "الجزيرة نت". صدر له في الشعر: "العالي يُصْلَب دائماً" (1999)، و"كما يخسر الأنبياء" (2007)، كما صدر له: "الخرافة والبندقية: أثر العولمة في الفكر السياسي الصهيوني" (1999)، و"المسألة الكردية وحزب العمال الكردستاني" (1997). والنصّ من مجموعته القصصية الأُولى "عيون الغرقى" الصادرة هذه الأيام. 

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون