في الغالب فإن النظريات التي تتناول الأدب من حيث علاقتها بالوسط الاجتماعي لاقت منذ بداية استقلال البلاد العربية رواجاً واسعاً لدى شريحة كبيرة من النقّاد. كانت حركة التحرّر العربية في طور الانتصارات التي حقّقتها على الأصعدة الوطنية، حيث تمكّنت معظم تلك الحركات من تحقيق استقلال بلدانها من الاستعمار، واستلمت السلطة وزعمت أنها في صدد بناء الأوطان.
معظم تلك الحركات ادّعت أيضاً في مراحل تالية أنها تبني الاشتراكية، تلك كانت وعودٌ خُلّبية أطلقها الضبّاط الذين حكموا البلاد العربية، من أجل جرّ المجتمع خلفهم، وإسكات المعارضة المحتملة لحكوماتهم التي بدأت تتّسم بالتسلّط والدكتاتورية. كان فرانز فانون قد حذّر مبكّراً جدّاً، في كتابه "معذّبو الأرض" (1961)، من فكرة تحوّل حركات التحرّر إلى الدكتاتورية، دون أن يكون له تأثير فاعل في طبيعة الثقافة وأساليب التعبير التي تختارها.
اللافت هي تلك الاستجابة الواسعة من قِبَل الثقافة لشعارات السلطة. ومعظم ما كُتب من النقد ومن التنظير ــ إذ كانت النظرية مستعارة بالكامل ــ كان يستجيب لما تقوله السلطات الحاكمة، لا لما تفعله. يمكننا أن نستعير كثيراً من الشواهد الحيّة، والغريبة، من مفكّرين ونقاد عرب كتبوا في تلك الآونة عن "المسيرة الاشتراكية" و"الحلم الاشتراكي" و"البلد الاشتراكي" وغير ذلك من أقوال عمومية ليس لها أساس عملي وواقعي على الأرض، غير التكرار الفارغ لأقوال هذا الزعيم أو غيره.
لماذا تلحق شرائح كبيرة من المثقّفين بشعارات السلطة؟
وبينما كان ذلك الزعيم يعمل على "طرد الشعب من التاريخ"، كما يقول فانون، أو "منعه من دخول التاريخ"، ساد شعار "الأدب في خدمة المجتمع" على صعيد الفن، وتحوّل المجتمع إلى مقدَّس نظري مكتوب على الورق، عملت الأنظمة الحاكمة على إخفاء ملامحه بحيث يختلط الظالم والمظلوم معاً تحت راية ما سُمّي وحدةً وطنية.
ظلّت الأنظمة العربية ــ التي كانت تقهر المجتمع وتعمل على تدجينه وتحويله مرغماً إلى الطاعة والركوع ــ تدفع في اتجاه ترسيخ شعارات تفخيمِه ودعمه وضرورة التعبير عنه على صعيد الكتابة. وفي المناهج المدرسية، اعتُبر الاتّجاه الاجتماعي في الأدب والفن أرفع أشكال التعبير الكتابية. لماذا قبلت شرائح كبيرة من المثقّفين اللحاق بشعارات السلطة؟ هل كانت تعبيراً عن الأمل أم كانت مجرّد استجابة وتَبَعية؟ الحقيقة هي أن قسماً كبيراً من الأدباء العرب كانوا جادّين في الدعوة إلى مشاركة الأدب في تحقيق التقدّم، بينما كان السياسيون يوظّفون المسألة في خدمة سلطتهم فقط.
لم يستفد المجتمع من تلك المشاركة، فقد ظلّ الأدب عاجزاً عن تقديم "الخدمة" المطلوبة في ظلّ الاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي. ظلّت الأمّيّة تطغى على شرائح كبيرة من المجتمع "المحبوب"، وفي حال حصول آخرين على أيّ مستوى من التعليم كان الجريُ وراء لقمة العيش يوسّع المسافة بين المجتمع والأدب. وطوال عهود الاستقلال السياسي، في جميع البلدان العربية، لم يزد عدد النسخ المطبوعة من أيّ كتاب عن ألف نسخة. يتناقص هذا الرقم اليوم إلى ما دون ذلك بسرعة، ويتناقص معه عدد القرّاء بالطبع، بينما يرقد المجتمع في عالم الغيب.
* روائي من سورية