ضمن الجهود التي تبذلها بعض المؤسّسات والجهات الثقافية والأكاديمية في إسبانيا، لدحض السردية الصهيونية المتغلغلة في الغرب، والتي تشوّه الحقائق وتنحاز إلى الإجرام الإسرائيلي، أقامت لجنة "الاستعراب الاستشراق" في "الرابطة العالمية للدفاع عن اللغة العربية"، مساء الثلاثاء الماضي، عبر منصّة "زووم"، ندوةً بعنوان "أوروبا والعدوان الإسرائيلي على غزّة: انحطاط أخلاقي وسقوط منظومة سياسية متهرئة"، تحدّث فيها المستعرب الإسباني وأستاذ الدراسات العربية والإسلامية في "جامعة مدريد المستقلّة"، إغناثيو غوتيريث دي تيران، وأدارت الحوارَ والمناقشة الكاتبة والأكاديمية العراقية باهرة عبد اللطيف.
بعد تأطير تاريخي وسياسي وثقافي قامت به عبد اللطيف للعدوان الصهيوني الذي بدأ في الثامن من تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، بدأت مداخلة دي تيران، حيث تطرّق إلى موقف أوروبا من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، والذي خلّف دماراً غير مسبوق في تاريخ البشرية.
توقّف الكاتب الإسباني مطوّلاً عند طبيعة السياسة الأوروبية الداعمة لـ"إسرائيل"، وتجلّيات هذا الموقف، وردود فعل أطراف كثيرة تقع على الهامش أو تنتمي إلى مجموعات حضارية وثقافية أُخرى لها نظرة مختلفة إلى الواقع العالمي العامّ وإلى القضية الفلسطينية، بعيداً عن المركزية الأوروبية التي تتبع بشكل أعمى السياسة الأميركية.
للموقف الأوروبي خلفيات تاريخية تتعلّق بالاستعمار والهيمنة
غير أنّ السؤال الهامّ الذي لم يتردّد دي تيران في طرحه هو: لماذا تؤيّد أوروبا، كمنظومة سياسية وثقافية وحضارية، العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزّة، علماً أنّ الدول الأوروبية تعرف جديّاً حجم الضرر والتناقض والتعارض بين قيمها وبين ما تولّده "إسرائيل" من مثل هذه العمليات؟
الجواب ليس سهلاً، كما قال دي تيران، وأوروبا ليست واحدة، بل هي متعدّدة ومتنوّعة، وهذا بطبيعة الحال يؤثّر على الجواب. ولكن مع ذلك، لم يتردّد المُحاضِر في إرجاع هذا التأييد إلى أسباب تاريخية، فعلى حدّ تعبيره: "علاقة الثقافة القومية الدينية الفكرية الأوروبية بمفهوم الاستعمار وهيمنتها الاقتصادية والثقافية في حقب تاريخية محدَّدة لها ما لها في هذا التأييد".
كذلك الأمر بالنسبة إلى الأسباب الدينية والعقائدية؛ "فالمؤسَّسة السياسية والدينية الأوروبية لا يُمكنها أن ترى نفسها خارج أن تكون قوّة مرجعية متفوّقة سياسياً ودينياً. وبمراجعة تاريخيّة لحروب الغرب يمكن أن ندرك ذلك".
غير أنّ النقطة الأبرز التي أشار إليها الأكاديمي الإسباني هي الأسباب الاجتماعية الداخلية: "فالموقف الأوروبي ممّا يجري في غزّة من مجازر وانتهاكات سافرة لحقوق الإنسان، ليس بالبعيد عن الهواجس الديمغرافية والثقافية التي تستحوذ على أوساط أوروبية كثيرة تعتقد أنّ الإسلام هو العدوّ الرئيسي للأوروبيين"، وهي صورة تعمل وسائل الإعلام على رسمها وترسيخها منذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر.
توقّف دي تيران، أيضاً، عند الأسباب الاقتصادية والتجارية، حيث رأى أنّ القوى الأوروبية تبحث عن مكانة متجدّدة لها في عالم تطرأ عليه تغيّرات كثيرة، بحيث لم تعد المنظومة الأوروبية والأميركية المهيمنة عليه كليّاً. وفي هذا الصدد يمكننا أن نفهم دعم السياسية الأوروبية- الأميركية لـ "إسرائيل" التي تعتبرها حليفتها في منطقة معقّدة.
وبعد عرض أسباب تأييد الدول والمؤسّسات الأوروبية للعدوان الإسرائيلي على غزّة، خلص دي تيران، في ختام مداخلته، إلى أنّ هذه المواقف تدل على انحطاط أخلاقي وفكري وحضاري، وأنّ الواقع الذي يعيشه الغرب مؤسف، لأنّه يتناقض مع المبادئ التي يشهر بها أمان العالَم ويدافع عنها في أوكرانيا، ولكنّه لا يطبقها في فلسطين.