تنشغل الكاتبة والباحثة الفلسطينية إسلام كمال، في دراستها "الجنسانية: في الهزيمة والانتصار" الصادرة لدى "منشورات المتوسّط" (2021)، في استقصاء وتتبّع ما تراكَم على الجنسانية بمفهومها الأعمّ، وتحديداً في السياق اللغوي، من تمظهرات وتحوّلات أفضت إليها التطوّرات الحاصلة على المجتمع الفلسطيني، وكيف تحوّلت ــ في إطارها الأشمل ــ إلى ميدان للهزيمة والانتصار.
وتذهب المؤلّفة، في معظم خلاصات دراستها، إلى اتّكاء الذهن الذكوري على موروثٍ عريض يطوّع العلاقة مع المرأة ــ وتحديداً ضمن مجالها اللغوي ــ في سياقاتٍ تُشبه المعركة المحسومة سلفاً. فمن جهة، يُناقش الكتاب كيف تحوّلت المرأة في هذه اللغة المجنسنة إلى ساحة معركة، وأرضٍ محتلّة، وجسدٍ خاضع تجري إهانته وابتذاله؛ ومن جهة أخرى، تفحص إسلام كمال تلك الحساسية المتلازمة للوعي، لدى مجموعة الأفراد الذين يتناولهم بحثها، حول إدراكهم لمفردات مجنسنة بعينها ولسياق استخدامها.
تقول الباحثة إنها عمدت، في دراستها المكثّفة، "إلى تكوين بعضٍ من المعرفة بالجنسانية، وتطويعها لدراسة الأفراد كموضوعات وأرضيّة أساسية لاكتشاف الجنسانية ومواقعها في حيواتهم اليومية، من خلال تجنيسهم للّغة والعلاقات الاجتماعية والعلاقات الحضارية". وتذهب إلى بؤرة هذه التمظهرات من خلال فحصٍ لغويّ كانت أداتُه مقابلةَ المبحوثين، ووسيلتُه تلكَ الصدمةَ العارية، أو ما بات يُطلق عليها حديثاً "الصدمة بالتعريض"، من خلال تعريض المبحوثين إلى سيلٍ من الأسئلة التي لا تخشى الحساسية الاجتماعية إزاء مفردات قد تُعتبر شتيمةً من العيار الثقيل.
تنظر الباحثة إلى اللغة بوصفها جسماً قبل أن تكون ممارسة
وفي تحليلها لتلك المقابلات، تشير إسلام كمال إلى أن منهج "الصدمة بالتعريض" أدّى، في بداية الأمر، إلى ارتباك الأشخاص الذين قابلتهم، قبل أن يقود، تالياً، إلى استرسالهم في الحديث عن عدد من أشدّ المواضيع حساسيّة في المجتمع، ولا سيّما العلاقات الحميمية، ودلالة الكثير من المفردات التي تسُتخدم في المجالات الاجتماعية، سواء الخاصّة أو العامّة. ارتباكٌ يُشير إلى الحاجز النفسي الكبير الذي يحول دون تعاطي الأفراد الذين قابلتهم، والذين يمثّلون المجتمع في صورته الأعمّ، مع هذا النوع من القضايا بأريحية أو بصورة طبيعية.
تكتب المؤلّفة في بداية دراستها: "إن اللغة جسمٌ قبل أن تكون ممارسة، هي جسم من الأصوات، وقد يكون هذا الجسم عنيفاً ومؤذياً، ويخترق السمَع والنفَس، يسبّب الإثارة، ويسبّب الحماسة، وقد يعمّر، وقد يدمّر"؛ ويبدو هذا المقطع مفتاحيّاً في دلالاته على الاتجاه الذي تريد أن تتّخذه إسلام كمال. إذ أن الدراسة ــ وإن بدت مأخوذةً بتمثّلات المبحوثين حول الجنسانية في سياق التصاقها باللغة ــ تحمّل المفردات، أي الشتائم والمفردة المجنسنة، حمولةً اجتماعية كبيرة، تُشير إلى ذلك التداخل بين السياق الاجتماعي واللغة المشبعة بنظرة الذكر إلى الأنثى، وتسجّل دور هذا العمران اللغوي في شكل العلاقة القائمة بينهما.
تقول الباحثة هنا: "إن الأدبيات والنتائج خرجت بخلاصة أن اللغة تجنسّت ضدّ المرأة، والعلاقة الاجتماعية تجنسّت ضدّ المرأة، وكذلك العلاقة الحضارية. إن فعل التجنيس ذاك لم يكن ضدّ المرأة وحسب، وإنما ضدّ العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، بحرْفها عن مسارها الطبيعي الجميل. ورغم أن رجالَ ونساءَ المقابلات أظهروا تعميمات عالية، بإحالة تلك التشوّهات الجنسية لغوياً واجتماعياً وحضارياً إلى ثقافة سائدةٍ هُم أبناؤها المتأثّرون بها طوال الوقت، إلّا أن تلك التشوّهات باقية ما بقيت تلك الثقافة الجنسية حول الجنس والمرأة".
تجنيس اللغة لا يستهدف المرأة فقط، بل علاقتها بالرجل أيضاً
اتّكأت الدراسة في صياغة أسئلتها البحثية على تاريخ طويل من الأدبيّات الإنسانية التي راجعت من خلالها الباحثة تطوّر مفهوم الجنسانية، ابتداءً بالعهد اليوناني وحقبة التنوير، ومروراً بمفكّري الإسلام، وانتهاءً بالموجات النِّسوية المتتالية؛ وهي في الوقت نفسه مراجعةٌ لتطوّر أو انتكاس الفهم الاجتماعي لهذه الدلالات. إذ يبدو من سياق الدراسة وضوحُ تلك العلاقة الطردية ــ وإن تمايزت درجة شدّتها وحدّتها، صعوداً وهبوطاً مع الذهن الاجتماعي ــ بين انتشار الحركات النسوية في العالَم، كواحدة من تجلّيات قدرة المرأة على الاستناد إلى إطار إيديولوجي يناهض أسباب انتهاك حقوقها، ويحدّد موقفها وموقعها من ذلك، لترسمَ خارطة أكثر وضوحاً حول النهج التي تنوي استخدامه ضد أدوات استلابها، والهدف الذي تريد أن تصل إليه في نضالها.
لا تقدّم الدراسة ــ بالرغم من طزاجة فكرتها محلّياً، وتحديداً في سياق المجتمع الفلسطيني اليوم ــ اقتراحاً كامل الوضوح حول الخلاصات التي تريد أن تصل إليها. لكنّها، بالتوازي مع ذلك، تحاول أن تؤسّس لسردية بديلة أو سردية قابلة للوقوف أمام السردية (الذكورية) الكبرى حول مسيرة التاريخ. وتسعى هذه السردية البديلة، أو الصُّغرى كما تسمّيها المؤلّفة، إلى "أن تكون بديلاً نظرياً ومعرفياً"، ذلك أن "السرديات الصغرى هي الخطابات التي تتشكّل مِن قِبَل جماعات أو تجمّعات معيّنة لتحقيق أهداف محدّدة، لا تحمل الطابع الشموليّ أو السلطويّ القسريّ للسردياّت الكبرى".
ومن هنا، تسلّط إسلام كمال الضوء على الكثير من المسكوت عنه، والمتواطأ عليه، وتحديداً عند النساء اللاتي توقّفت بالدراسة عند حالاتهنّ، إذ تُظهر إجاباتٌ كثيرة حالة استسلام مؤلمة أمام تمثّلات الجنسانية في خطابات الذكور، التي تنطوي على استدعاء الكثير من عبارات التاريخ والدين والسياسة، في قوالب شعبوية. لكنّ الدراسة، وأمام كلّ ذلك، تركّز على مجموعة من المقولات المهمّة في تشريح وتأسيس دلالاتٍ جديدة، أكثر وعياً تجاه ذاتها، وأقلّ استسلاماً أمام سيلٍ من تمثّلات ذكورية تبدو عصيّة على المقاومة في مجتمع يضع المرأة على رفٍّ بعيد عند الحديث عن مفاصل حياته اليومية.
* كاتب من فلسطين