تنتمي البشرية، من ناحية الأطر المعرفية والقناعات التي تدورُ في فلكها، إلى بُعدين: واحد بنيوي "جوهراني"، أي أنَّ الأشياء ذات تركيبة وإطار معروف، مثل هيئة الإنسان، فهي مهما اختلفت بين الأشكال والأحجام والألوان، تبقى مألوفة، أمّا الثاني فينتمي إلى قوالب معرفية (الإبستمولوجيا) تتغيّر حسب الأماكن والأزمان والسياقات.
تتبعُ أغلب الديانات والقناعات اليقينيّة عالم البنية الجوهرانية الراسخة، وذلك لا يتغيّرُ، حيث ترى فيه الأصل والأصالة والخلاص، وهذا نظامٌ كاملٌ متكاملٌ له بداية واضحة، ونهاية واضحة أيضاً، والخيارات الدنيوية في ظل هذا النظام محدودة، بينما النظام الآخر، وهو عالم المعرفة وأساسها في العقل والتفكير البشري والسياقات المختلفة التي تحكمه، فذاك عالمٌ آخر. هذا الأخير تناوله المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه "بدايات: المقصد والمنهجيّة"، وهو من أوائل الكتب التي ألّفها، إذ صدر عام 1975.
يُعدُّ الكتابُ موسوعةً فكريّة أصيلة ومترامية الأطراف يخوضُ فيها سعيد سجالاً طويلاً وعميقاً مع بعض أهمّ المراجع الأوروبية الفكرية بخصوص طُرق إنتاج المعرفة وأهميتها وتأثيراتها، فهنا يقرأ فرويد، ونيتشه، وجيامباتيستا فيكو، وميشال فوكو، ودو سوسور، ودريدا، وغيرهم من الفلاسفة والأدباء المعروفين. هذا الكتاب، الممتع حقّاً، هو رحلة في أعماق التفكير الأوروبي، ولدرجة ما الإنساني، فيما يخصُّ السؤال عن حقيقة المعرفة الإنسانية وأبعادها المختلفة.
كلُّ بداية تتضمّن انتقاءً يشمل استبعاد خيارات أُخرى
ولعلَّ أهميّة الكتاب تكمن في أنّه من كُتُب إدوارد سعيد الأُولى بعد رسالة الدكتوراه التي أنجزها عن الكاتب البولندي- البريطاني جوزيف كونراد. وقد ساعدَته كثيراً في اشتقاق منهجية علمية رافقته طوال حياته، وهي تتعلّق بالمقصد الذي يرافق أعمال الكتّاب الكبار ويصبغها، أي لا توجدُ كتابةٌ دون نيّة ما تسيّرها. ففي هذا الكتاب نرى الاتجاه النظري الواسع، كونه يُغيِّر ما قد نشير إليه كقواعد اللعبة المألوفة للأوروبيّين، حيث يتمّ التعامل مع المعرفة والعلوم وكأنّها أدوات خالية من السياق ومن النية ومن السياسة بمعانيها المختلفة. يشقُّ سعيد في هذا الكتاب/ المكتبة طريقاً جديداً بأسلوبٍ ممعنٍ في الفهم والتفكّير وبلغةٍ رائدة، حيثُ تتواردُ الأفكار وكأنّها شلّالُ ماءٍ يروي أرضاً عطشى.
ينطلقُ سعيد من حقيقة أنَّ تاريخ البشرية هو تاريخ بدايات دنيوية، لا أصول ثابتة غير قابلة للنقد والمراجعة والمساءلة، وهذا يعني أنَّ البشر صنعوا تاريخهم في ظلِّ سياقات مختلفة، وطوَّروا لغاتهم لكي تُعبّرَ عن تعقيداتٍ كثيرةٍ لا تكفُّ عن التراكم. ومن هنا فإنَّ البحث عن أصل معرفي وكأنّه متحرّر من أهواء البشر ومآربهم وكذلك السياق الذي عملوا في إطاره لا يفضي إلا إلى طريقٍ مسدود. أمّا عالم "البدايات"، وهي الكلمة التي يستخدمها سعيد كثيراً، فهو عالَم الانخراط والاشتباك مع أفكار بشر قابلة للتحليل والتمحيص والهجران أيضاً.
يقولُ إدوارد سعيد في كتابه جملةً مهمّة ومذهلة في نفس الوقت، وهي، كما أسلوبُ الرجل بشكلٍ عام، تلخّص عالماً واسعاً من الأشياء حبّذا لو نفهمه لنُنقذَ أنفسنا من كثير من الأخطاء الفكرية والمثاليات غير الممكنة، وهنا أترجم: "الفكرة الرئيسة في الكتاب هي أنَّ البداية نشاط مثمرٌ واعٍ وَمُتعَمد، وبالإضافة إلى ذلك، إنّها نشاط يحتوي في طياتهِ على شعورٍ بالفقدان".
يعني هذا أن كلّ بداية يكتنفها قدرٌ من الوعي والنيّة، وإن سلكتْ طُرقاً تتطّلبُ تفسيرات مختلفة، وكلُّ بدايةٍ تتضمنُ انتقاءً واختياراً يشملُ استبعاداً لخيارات أُخرى. وهكذا تبقى صناعة المعرفة مهما اكتملَت ناقصة، والبلاغة مهما علت دنيويّة، ومع هذا لا بدَّ من المعرفة كأساس للتفكّير فيما يترابطُ من الأشياء. بدون هكذا تحليل تأخذُ الأيديولوجيا مكانها وتستحكم بالأمور، وتلك بمثابة سجن يحسبهُ المتحدّثُ فيه معنىً ورأي، وما هو بذلك.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن