هل كان ويليام ماركس، الناقد الفرنسي، وأستاذ كرسيّ الآداب المقارنة في "كولّج دو فرانس"، على عِلم، خريفَ العام الماضي، بأنّ برمجته لسلسلة محاضرات لـ أورهان باموك حول فن الرواية، في أيار/ مايو هذا، ستتزامن مع الانتخابات الأهمّ في بلد الكاتب التركي منذ سنوات؟ نميلُ إلى الإجابة بأن الأمر لم يكن مقصوداً. لكنّ المصادفة لم تمرّ من دون انتباه، بالتأكيد. ومن ثمار هذا الانتباه، مثلاً، اللقاءُ الذي أجرته صحيفة "لو موند" الفرنسية مع حائز "نوبل للأدب" (2006) ونشرتْه عشيّة الانتخابات، التي أُقيمت في الرابع عشر من هذا الشهر من دون أن تكون حاسمةً في ما يخصّ تحديد هوية الرئيس المقبل للبلد، تاركةً هذا الأمر لجولةٍ انتخابية ثانية ستُقام في الثامن والعشرين من الشهر.
في الحوار، بدا الرجل أكثر اتّزاناً من الكاريكاتير العلمانويّ الذي يصوّره فيه إسلاميّو تركيا من ناحية، ومن الصورة الراديكالية التي يقدّمه فيها، من ناحيةٍ أُخرى، خصومُهم من جماعة العقلية الأتاتوركية. مثلاً، نراه يذكّر الصحافيّين الفرنسيين، اللذين قابلاه، بأن "اسم أردوغان كان يرتبط، أوّل الأمر، بالازدهار الاقتصادي وبقليل من حرّية التعبير. كانت تلك خلطةً جيدة، وظلّت فعّالةً طيلةَ 15 عاماً تقريباً. لكنّ أردوغان خرّب كلّ شيء خلال السنوات الأربع أو الخمس الماضية".
كما نراه يرفض الشخصنة، إنْ كان في ما يخصّ أردوغان أو أتاتورك، مُعلناً عدم اهتمامه بعمق فكرهما أو بما عاشاه في طفولتهما وشبابهما، بل اهتمامه، بدلاً من ذلك، بأفعالهما وبالنحو الذي سار من خلاله تاريخ تركيا معهما أو من دونهما. هنا، يقدّم بعضاً من التحليلات لتاريخ البلاد الحديث، وهي تحليلات يُعطي فيها لأردوغانَ ما لأردوغان، ولأتاتورك ما لأتاتورك، وينتقدهما فيها، من دون أن يتجنّب الإشارة إلى أن اليسار العلماني، الذي يذكّرنا بأنه ينتمي إليه (هنا يدعونا إلى قراءة روايته "ثلج"، حول هذا الموضوع. ولحُسن الحظ أن المترجم السوري الراحل عبد القادر عبد اللي قد نقلها، منذ زمن، إلى العربية)، قد ارتكب العديد من الأخطاء التي فتحت الباب أمام مُحافِظ مثل أردوغان لإدارة البلاد لأكثر من عقدين (من أخطاء اليسار التركي، كما يُشير، منْعُ الحجاب، وهي قضية بنى عليها أردوغان جزءاً أساسياً من مشروعه السياسي، في بداياته على الأقل).
تأثّر في شبابه بمقولة رولان بارت حول "مَوت المؤلِّف"
نستحضر هذه الآراءَ السياسية لأن لها علاقةً، ولو من بعيد، بما جاء الكاتب التركي ليقوله عن فن الرواية أمام الجمهور الذي ملأ "قاعة مارغريت دو نافار" في الدائرة الباريسية الخامسة للاستماع إلى أولى المحاضرات في سلسلته "مفارقة الروائي" التي يلقيها طيلة هذا الشهر. ثمّة تناسقٌ منطقيّ في نظرته، إذا ما أردنا التعميم. إذ، كما في السياسة، سنقع في الأدب على رجلٍ لا يهمّه الشخصيّ ــ أو هذا على الأقل ما نفهمه من أولى محاضراته، التي ألقاها في التاسع من الشهر الجاري وخصّصها لمسألة البدايات: البدايات بمعنى الدخول في عالَم الأدب، والبدايات، قبل ذلك وفوقه، بمعنى الشروع في كتابة روايةٍ ما.
في بداياته هو، فضّل باموك الذهاب بعكس ما يذهب إليه الكتّاب الشباب عادةً، والذين كثيراً ما يكون نصّهم الروائيّ الأوّل وعاءً من السيرة الذاتية الخالصة، يملأونه بآرائهم وجراحاتهم وتهويماتهم وغيرها ممّا يدور قبل أيّ شيء حولهم. فالكاتب التركيّ كان مقتنعاً، كما يقول، بأطروحة رولان بارت حول "مَوت المؤلّف" (عنوان مقالة نشرها الناقد الفرنسي أوّلاً بالإنكليزية، عام 1967). وكان هذا يعني أن المهمّ عنده هو "مَقصَد النص والرسالة التي يسعى إلى إيصالها"، وليس مقصد الكاتب ورؤاه.
هذه الخلاصة، وصل إليها باموك مبكّراً، لكنّها تطلّبت وقتاً حتى ترسّخت، إذا ما أردنا تحليل رواياته الثلاث الأولى وعلاقتها بالبُعد السيَري: بُعدٌ حاضرٌ، نسبياً على الأقل، كخلفية ملهِمة للموضوع والعمل، في روايته الأولى "جودت بك وأبناؤه" (1982)، التي نشرها وهو لا يزال في العشرين من العمر؛ سيقلّ حضور السيَريّ كثيراً في روايته الثانية، "البيت الصامت" (1983)، قبل أن يختفي بشكل شبه كامل في العمل الثالث، "القلعة البيضاء" (1985).
لا يمكن بناءُ رواية على مجرّد فكرة أو اثنتين أو ثلاث
لكنّ العلاقة مع السيرة ليست كلّ شيء، خصوصاً أن الروائيّ يرغب، في محاضراته الأربع هذه، أن يقدّم ما يشبه "النصائح والتوجيهات" العملية حول كتابة الرواية، قائلاً إن العنوان البديل لمداخلاته هذه كان ليُصبح ــ لولا سذاجته وضخامته ــ "كيف تكتب رواية؟". وكان من الطبيعي أن تدور جميع ملاحظاته، في محاضرته الأولى، حول مسألة البدايات (يعالج في محاضراته الأُخرى، التي يلقي آخرها في الثلاثين من الشهر الجاري، مسائل مثل بناء الشخصية، والروابط بين الإبداع والإتقان، وغيرها).
هنا، أخذ صاحب "اسمي أحمر" (1998) على عاتقه تفنيد بعض "الأساطير" الشائعة، كالقول إن بداية أحدنا بتحبير رواية ما تعني أنه قطع نصف الطريق، أو القول بأن الروائيّ "تأتيه" روايته وأفكارها دفعةً واحدة، أو القول بأنه يعرف، منذ اللحظة الأولى، أو ربما حتى قبل البدء بالكتابة، النحوَ الذي ستسير عليه حكايته وذلك الذي ستنتهي من خلاله. لتفنيد كلّ واحدة من هذه المقولات يُخرج باموك من جُعبته مجموعةً من الحجج التي يستقيها بشكل أساسي من ثلاثة أسماء أثّرت في تجربته إلى حدّ بعيد، كما نفهم من كلامه: ليو تولستوي، وهو، بحسبه، "المعلّم الأكبر في كلّ زمان"، وويليام فوكنر، وكذلك توماس مان ــ وخصوصاً روايته "الجبل السحري"، التي يقول إنه لطالما حلم بكتابة عمل يشبهها.
والآن، الحُجَج. "الرواية مثل الشجرة"، يقول لنا باموك، في استعارةٍ سيعود إليها طيلة مداخلته. والشجرة لا تولَد دفعةً واحدة. إنها نتيجةُ عملٍ طويل. وإذا كانت تفاصيل الرواية ومَشاهدها وشخصياتها تُشبه أوراق الشجر، فإن هذا يعني أن كل هذه العناصر هي بالضرورة عرضة للنموّ والخمول والسقوط، للاخضرار والاصفرار، طيلة حياة الشجرة/الرواية. قد تغطّي أوراقٌ على أُخرى، وقد يكبر غصنٌ أكثر من آخر، وقد تأتي حشرات وتمضغ هذه الورقة أو تلك. لكنّ الشجرة تبقى في مكانها.
بخلاف ما يجري عادةً، ابتعد في بداياته عن السيَريّ
أمّا الفكرة الأولى التي تولَد من خلالها الرواية، فليس علينا بالضرورة أن نتخيّل أنها جذرُ الشجرة. إذ يمكن لها أن تكون واحدة من الورقات، أو، بعبارة أخرى، ألّا تتموضع في بداية الرواية. وباموك يضرب على ذلك مثالاً بتولستوي وروايته "آنا كارينينا". وُلدت فكرة الرواية في بال الكاتب الروسي بُعيد حادث وقع مع جيرانه وخادمتهم التي انتحرت عبر رمي نفسها أمام أحد القطارات، غير أن هذا الحدث لن يكونَ افتتاحَ الرواية، بل خاتمتها، حيث ستنتحر بطلته آنا، أيضاً، بإلقاء نفسها تحت قطار.
لكنّ تولستوي، بين متابعته لما جرى مع خادمة جيرانه، وبين لحظة انتهائه من الرواية، تخيّل عالماً كاملاً: تخيّل شخصيات، وسنواتٍ ماضية وكذلك سنواتٍ قادمة من حيواتها، وتخيّل بنيتها النفسية وأحلامها وطبيعتها الاجتماعية، وتخيّل أماكنَ وأحداثاً وعلاقات. وهو ما ينصح به باموك الكتّابَ الشباب: عدم الاكتفاء بمجرّد فكرة أو اثنتين أو ثلاث وبناء رواية عليها، بل التخيُّل، والتخيُّل، وعدم التوقف عن تخيُّل كل ما يمكن تخيُّله من أحداث تُبنى على أساس الفكرة الأولى وتشكّل قوام الرواية.