بين الكتّاب البارزين، قد يكون ميلان كونديرا من أكثر الأسماء التي يتحمّس المرء لمشاهدة فيلم وثائقي عنها. ذلك أن حضور الروائي التشيكي ـ الفرنسي (1929) في وسائل الإعلام، ومعرفتنا عن مسيرته وحياته، ظلّا يتناقصان بالتوازي مع تصاعد شهرته منذ عقود، حتى أننا لم نسمع منذ سنوات بأيّ تصريح أو لقاء معه. لا تكسر المخرجة التشيكية جارميلا بوزكوفا هذه القاعدة في فيلمها الوثائقيّ "ميلان كونديرا: أوديسا الأوهام المغدورة"، الذي تبثّه قناة "آرتيه" الثقافية، الفرنسية الألمانية، هذه الأيام. إذ إنّنا لا نعثر في شريطها (54 دقيقة) على صور أو لقاءات جديدة مع صاحب "الخلود". لكنّ أهمّية عملها تكمن في مكان آخَر: في تناوُلها، بشكل واسع، لسنوات الكاتب في بلده الأمّ، تشيكيا (يوم كانت تشكل تشيكوسلوفاكيا مع سلوفاكيا)، في حديثها إلى أصدقاء لكونديرا في طفولته وشبابه، وفي تركيزها على أثره هناك وعلى التلقّي الذي عرفه وما يزال يعرفه في بلده الذي اضطُرّ إلى مغادرته، عام 1975، إلى فرنسا. وجهةُ نظرٍ تضيف إليها، في الوقت نفسه، آراء روائيين ونقّاد من خارج تشيكيا، مثل التركية إليف شفق أو الفرنسي لوران بينيه، وهما من الكتّاب المطّلعين بشكل جيّد على تجربة كونديرا، ومن الذين تأثّروا به أو وضعوا حوله أعمالاً.
"مَن هو، إذاً هذا المنفيّ، هذا الروائي المُلغِز؟ وكيف تحوّل هذا الكاتب، تشيكيّ الأصل، إلى واحد من أكبر الكتّاب الفرنسيين؟". عن هذا السؤال الذي تطرحه في بداية فيلمها، تختار المخرجة إجابةً تجمع بين التاريخي والشخصيّ، حيث تعيدنا إلى بداية الستّينيات، التي شهدت انفتاحاً سياسياً في تشيكوسلوفاكيا، رافقه غليان في المشهد الفنّي والأدبي.
لم يصل أغلب أعماله إلى قرّاء بلده إلّا بعد عقود من تأليفها
حينها، كان كونديرا يدرّس الأدب في "مدرسة السينما" بالعاصمة براغ، والتي سيتحوّل بعض طلّابه فيها إلى مجموعة من أبرز مخرجي ما سيُعرَف بـ"الموجة الجديدة التشيكية". تلامذةٌ سيعملون، مثل أستاذهم في روايته "المزحة" (1967 في الأصل التشيكي)، على إدانة النظام الشمولي الذي كان يحكم البلد. ومثله، ومثل بطل روايته، لودفيك، سيجد بعضهم نفسَه مفصولاً من عمله أو من حزبه، أو معزولاً، أو حتّى منفياً. لكنّ هذا الرحيل لم يكن الخطوة الأولى أو الأساسية في تجربته. فالفتى، المولود لعائلة كان الفن والأدب يلعبان فيها دوراً كبيراً، سيبني ثقافة واسعة منذ سني المراهقة، جامعاً بين قراءته لكلاسيكيات بلده وأوروبا في الشعر والرواية والفلسفة، وبين تعلّمه الموسيقى وعزف البيانو على يد والده، الذي سيستحضره كونديرا أكثر من مرّة في لقاءاته القليلة المصوّرة، هذه اللقاءات التي أجرتها معه وسائل إعلام فرنسية، والتي تُعَدّ المادّة الوحيدة التي يستند إليها الفيلم كأرشيف شخصيّ للكاتب.
ضمن عودتها إلى مسيرة الكاتب في بلده، تذكّرنا جارميلا بوزكوفا بأن الروائي الشهير نشر أكثر من ديوان شعريّ بالتشيكية، وبعض هذه الدواوين ملتزم سياسياً، كما تذكّرنا بكتاباته الأولى التي قامت ــ مع شعره ــ على بُعدٍ غنائيّ تارةً، وسياسي مباشر تارة أخرى. لكنّ كونديرا سيعمل، مع الوقت، على محو هذين الأثرين، الغنائي والسياسي، من أعماله اللاحقة، كما لن يضمّن أيّاً من شعره أو نصوصه الأولى في أعماله الكاملة كما طبعتها دار "غاليمار" في سلسلة "لا بليّاد" (2011).
وبينما كان كونديرا يحظى بتلقٍّ ومقروئية واسعة في فرنسا، كان الكاتب أشبه بـ"أب غائب للأدب التشيكي"، كما يقول في الفيلم مواطنه، الكاتب الشاب يان نْيميتس، حيث ظلّت كتبه ممنوعةً لعقود، لكنّ ذلك لم يمنع بعض القرّاء من الوصول إليها، كما يشير نْيميتس الذي يقول إن كونديرا يمثّل في بلده، غالباً، أوّل كاتب يقرأه المرء حين يدخل عالم القراءة. هذا الحضور البعيد، أو الغياب الحاضر، يفتح الباب على نوعين من العلاقة لدى القرّاء والكتّاب التشيكيين مع كونديرا: إما احترام الأب وإنجازه والمشي على خطاه وحتى انتظار عودته يوماً ما، أو إلقاء اللوم عليه والبحث عمّا يدينه، أو السعي إلى تناسيه وتجاوزه. ولعلّ وصول أعمال كونديرا المتأخّر إلى بلده الأم، بعد عقود من المنع، عقّد أيضاً من علاقة الكاتب مع القرّاء من مواطنيه، كما يقول الناقد بيتر بيلك، الذي يشير إلى غرابة هذا التلقّي، حيث كُتب عددٌ من أبرز أعمال كونديرا في السبعينيات والثمانينيات، لكنّها لن تصبح متاحة أمام التشيكيين إلا بعد عام 2006، وهو ما يتطلّب نوعاً خاصّاً من القراءة وإعادة وضع النصوص في سياقها.