مهموماً بالهزيمة في حزيران/ يونيو 1967، والتي عزا أبرز أسبابها إلى الفجوة المعرفية الكبرى بين العالم العربي وبين العدوّ الصهيوني، رأى أنطوان زحلان ضرورة بناء مؤسساتٍ عِلمية، تمتلك تأثيراً جدّياً على صناعة القرار في الأنظمة، ومن شأنها تفعيل طاقة المجتمعات العربية وقواها من أجل التحرّر من الهيمنة.
لكن أزمة النظام العربي نفسه حالت دون تحقيق مشاريع عدّة، بعد تأسيسها على ركائز ومنهجيةٍ كان يمكن لها أن تحقّق طموحات أعلى راودت عالِم الفيزياء والمؤرّخ الفلسطيني الذي ظلّ يبشّر لها بتنظيراته المعمّقة حتى رحيله، وعبر مؤلّفاته الاستشرافية التي تعدّدت مجالاتها في الفيزياء والتاريخ والعلوم الإنسانية والاجتماعية، وفي خبراته التي استفاد منها كثيرون عملوا معه في المواقع الإدارية التي شغلها في جميع تلك المؤسسات.
"منارة وذكرى أنطوان (1928 - 2020)" عنوان الكتاب الذي صدر حديثاً عن "رياض الريّس للكتب والنشر"، من إعداد وتحرير محمد مكداشي وجين سعيد المقدسي وحسن الشريف، وشارك في تأليفه عدد من الباحثين العرب، كما صمّمت صورة الغلاف الفنّانة جاكلين بجاني.
رأى أنه بدون العدالة يصبح العلم أداة للقمع والاستغلال
يقدّم الكتاب صورة متكاملة حول الأدوار التي لعبها زحلان خلال مرحلةٍ شهدت المنطقة العربية فيها انهيارات سياسية واجتماعية، مع انحدار في حضور النخب الثقافية والفكرية، إذ لم يكلّ دأبه يوماً عن توطين العِلم في سياق تنموي شامل، وخَلْق ثقافة سياسية مختلفة مبنيّة على استراتيجيات تؤمن بالإنسان العربي الفاعل الذي تنبع ريادته في إطار مؤسسي ابتكاري.
في المقال الأول الذي حمل عنوان "أنطوان زحلان وضمور الإنتجلنسيا الفلسطينية، يقف صقر أبو فخر عند تلك المنعطفات الخطيرة التي أعاقت أحلامه مُشيراً إلى أن "جميع الأفكار التي دعا إليها، والمؤسّسات التي أنشأها، باتت خارج التداول، ذلك لأن الخطر على الأمّة العربية، ما عاد يتمثّل في هجرة الأدمغة العربية إلى أميركا وأوروبا فحسب، بل في تزاحم العرب زرافات ووحدانا على الهجرة إلى كلّ مكان فوق هذه البسيطة، بعدما صارت الحياة الكريمة عزيزة في معظم ديارنا الموبوءة بالتسلّط والقهر والفقر...".
تمكّن الراحل ومعه وليد الخالدي وبرهان الدجّاني، من إقناع الملك حسين بضرورة تأسيس جمعيّة عِلمية عربية بعد أن عرّت حرب 1967 تلك "الفجوة العِلمية القاهرة" بين العرب والاحتلال، كما يلفت إليها أبو فخر، مضيفاً أن زحلان استقال من "الجامعة الأميركية" عام 1969، حيث كان يعمل مدّرساً، وتفرّغ للعمل رئيساً لما أطلق عليها "الجمعية العِلمية الملكية" في عمّان، لكن الحوادث التي وقعت بين الجيش الأردني وبين "منظمة التحرير الفلسطينية" في أيلول/ سبتمبر عام 1970، دفعته مع الخالدي والدجّاني إلى الانسحاب من مجلس أمناء الجمعية، والعودة إلى التدريس "في الأميركية" من جديد.
أزمة النظام العربي حالت دون تحقيق المشاريع التي أسّسها
مرة أُخرى، أعاد ثلاثتهم الكرّة حين أقنعوا رجل الأعمال الفلسطيني حسيب صيّاغ (1920 - 2010) بتبنّي المشروع وتمويله سنة 1973، ليصبح زحلان مديراً عاماً لـ"مؤسسة المشاريع والإنماء العربي" التي بدأت عملها بإجراء مسح شمل الطاقة البشرية العُليا (المؤهَّلة) في العراق، إلّا أن المؤسسة توقّفت عن العمل مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، وفق المقال السابق أيضاً.
أمّا منير بشّور، فيضع في مقاله "في تقديم أنطوان زحلان" تجربة صاحب كتاب "العِلم والتعليم العالي في إسرائيل" (1970) تحت ثلاثة عناوين متداخلة في ما بينها وليست منفصلةً؛ أوّلها العالِم والأستاذ والباحث الأكاديمي الذي وضع عشرات الأبحاث المنشورة في حقل اختصاصه (الفيزياء)، وأن يسحب منهجيته العِلمية الصارمة ذاتها على "دراسة وتقصّي أخبار البشر" التي نجدها في كتب ثلاثة أساسية في موضوع العلم والتكنولوجيا والسياسة العِلمية في البلدان العربية.
وثانيها المُبشِّر الداعية، المناضل العلمي، الذي "ضاق ذرعاً بالسجال القائم في أوساطنا منذ زمن طويل والمتعلّق بالهوية، فانتقل بهذا الجدل من إطار الهوية إلى إطار المنهج؛ غيّر الباراديم من العصبية الخلدونية إلى رحاب العِلم. باراديم الهوية يفتّت ويشتّت، أما باراديم المنهج فيجمع ويوحِّد..."، وقام بتأصيل تاريخي لتنظيره هذا بالعودة إلى تاريخ العرب منذ ظهورهم على المسرح السياسي في صدر الإسلام وحتى العصر الحديث، لتأكيد درسٍ أول يتمثّل بتوطين العِلم لا الاكتفاء باستيراد منتجاته، وثانٍ يتصل بمنظومة تربط العِلم والجامعات ومؤسسات الأعمال، وثالث يتعلّق بانفتاحه على العلوم الإنسانية ورؤيته بأنه "بدون العدالة وحقوق الإنسان يصبح العِلم والتكنولوجيا أدوات للقمع والاستغلال والإفقار"، ورابع يعتبر الثقافة السياسية مقرّراً حاسماً للتقدّم العلمي.
آمن بعدم فصل العلم عن التنمية وصناعة القرار السياسي
وثالث العناوين كما يحدّدها بشّور، فهو زحلان المعمرجي/ المُشتبك الذي يسعى لأن يربط بين الناس لتفعيل قوّتهم وتعظيمها، من خلال تأسيس منظومات العِلم والتقانة وإقامة شبكات التواصل والتعارف والتعاون، سواء خلال عمله خبيراً ومؤسّساً لـ"بنك الأدمغة في المهجر" التابع لـ"جامعة الدول العربية" بين عاميٍ 1982 و1986، حيث تمّ تجميع وتصنيف حوالي ثلاثين ألف عربي عالي المهارة خارج العالم العربي، أو في تأسيسه "منظمة المجتمع العِلمي العربي" عام 2010، تهدف إلى تقوية الروابط بين العلماء العرب وتشجيع التعاون البحثي والتطبيقي وتبادل الخبرات عربياً، ورفع مستوى البحث العلمي، والاستفادة من نتائجه في حلّ المشاكل التقنية والبيئية.
في مقاله "رائد السياسات العلمية العربية"، يبيّن معين حمزة أنّ زحلان كان في تحليله للسياسات العِلمية "مفكّراً مستقلّاً متحرّراً من أيّة قيود والتزامات سياسية، رائدُه المنطق وفتح آفاق جديدة وإطلاق مبادرات مُجدية، بالتفكير 'خارج الصندوق' وصولاً إلى استشراف المستقبل 'خارج العقل العربي' السائد بين العامّة والخاصّة، وهو يرى بوضوح أن تدنّي نسبة ما تنفقه الدول العربية على البحث والتطوير يؤثّر سلباً على الأداء الإبداعي العربي كمّاً وكيفاً، فضلاً عن ضعف تأثيره، ومحدودية نتائجه التطبيقية، كما يستهجن ربط هيئات البحث العِلمي بنُظم التعليم العالي بدلاً من ربطها بنُظم الإنتاج والخدمات كما هو الحال في الدول الصناعية...".
"أنطوان زحلان: علَمٌ عربيّ فلسطيني في العلم والتنمية" عنوان مقال حسن الشريف الذي يستعيد آخر كتب الراحل الذي حمل عنوان "العلم والسيادة: التوقّعات والإمكانات في البلدان العربية"، وفي تقديمه يتحدّث عن طفولته وبداية حياته في حيفا وتعلّقه حينذاك بالعلم والفيزياء ورغبته الدائمة في "أن يجرّب عملياً وبيديه" مفكّكاً كلّ ما يجده من آلات وأدوات كهربائية في المنزل ليعيد تركيبه إذا استطاع. ومن حيفا التي هُجّر معها قسراً إلى لبنان، حيث أكمل دراسته فيها وحصل على منحة تعليمية في "الجامعة الأميركية" التي تخرّج فيها سنة 1951 بدرجة البكالوريوس في الفيزياء، ثم حاز، درجة الماجستير في التخصص نفسه، لينتقل إلى الولايات المتحدة ويلتحق بـ"جامعة سيراكوز" في نيويورك، حيث حاز درجة الدكتوراه في الفيزياء سنة 1956.
ويقرأ محمد مراياتي في استذكاره أنطوان زحلان، كتابه "العرب وتحدّيات العِلم والتقانة - تقدّم من دون تغيير" (1999)، موضّحاً أنه يدقّ ناقوس الخطر مع بداية القرن الحادي والعشرين في تناوله للعلاقة الوثيقة بين العِلم والتقانة من جهة وبين البرامج الاقتصادية من جهة ثانية، وعملية صُنع القرار في الأقطار العربية من جهة ثالثة، حيث شهدت العقود الأخيرة استثماراً محدوداً حصل معه بعض التقدّم، فهناك عشرة ملايين خرّيج جامعي ومئات الشركات الصناعية الكبيرة برأس مال يتجاوز عدّة مليارات، وحوالي خمسين ألف عضو في الهيئات التعليمية والجامعية في العلوم والتقانة يعملون في أكثر من 175 جامعة، وأكثر من ألف منظّمة تقوم بنشاطات البحث والتطوير، ورغم وجود منظومة عربية للعِلم والتقانة بمثل هذه العناصر والتي يجب أن تؤدّي إلى تغيّر في الواقع الاقتصادي والسياسي والعسكري، إلا أن هذا التغيير لم يحصل.
يضمّ الكتاب أيضاً مقالات: "أنطوان زحلان الذي عرفتُ" لموزة الريان، و"أنطوان زحلان: فلسطين تباهي به" لعدنان سمارة، و"أنطوان زحلان: رحل وفي حلقه طعم العلقم" لأسعد عبد الرحمن، و"الدكتور أنطوان زحلان" لفائز ناظم مقدسي، و"ذكرياتي مع طوني" لمحمد مكداشي، ومقابلة مع شقيقه بول زحلان أجرتها جين سعيد المقدسي، وصوراً فوتوغرافية من محطّات مختلفة من حياته منها مع أفراد عائلته وأخرى مع أصدقائه، وأوراقاً مكتوبة بخطّ يده عن ذكريات طفولته، وصور أغلفة كتبه جميعاً. إلى جانب قسم باللغة الإنكليزية قدّمته جين سعيد المقدسي، واحتوى شهادات ومقالات لكلّ من علي العسام، وسامي البنّا، وخليل بيطار، وعمر البزري، وريما بردقش، وجورج قرم، وعبد القادر جفلات، وعابدين جبارة، وعفيف كنفاني، وعاطف قبرصي، وفؤاد مراد، وحنا ناصر، ويوسف سلام، وعدنان شهاب الدين، وتهاني سنديان، وثريا التركي، وليلى أمل زحلان لحبابي.