أنبل البشر حين تخذلهم البشرية

16 ديسمبر 2023
الإسعاف على الأرض وبلا معدات طبية، مستشفى العودة في جباليا، 6 كانون الأول/ ديسمبر (Getty)
+ الخط -

لم أتخيل في يومٍ من الأيام أن يحلَّ بغزة ما يحلُّ بها هذه الأيام والشهور، ومن يعلم إلى متى. التدمير المُّمنهج لكافةِ أشكال الحياة، واستهداف البشر والحجر وكافّة مظاهر الحياة يطاولُ كلّ شيء ولا يتوقّف، والهدف الواضح من جعل قطاع غزّة غير قابل للحياة للفلسطينيّين صارخٌ ويجري العمل على تحقيقهِ بأبشع الطرق.

ولعلَّ منظر المشافي والأطباء والطبيبات والممرّضات والممرّضين وغيرهم ممّن يعملون في المجال الصحّي يدمي القلب، فلم تكن هناك حرب تستفحلُ فيها البشاعة إلى هذا الحدّ، حيث تُستهدف المستشفيات والمسعفون الأبطال وبشكلٍ واضح ومهول، ولا تتغيّر الأمور، بل وتدخل أميركا على الخطّ لكي توفّر غطاءً لما ترتكبه "إسرائيل" من جرائم مهولة لا لبس فيها ولا غموض.

لا أمل، لا أمل من الصهيونية وحُماتها في الغرب والشرق، سواء قناعة وتماهياً أيديولوجياً أو اقتصادياً معها أو خوفاً من بطشها. أمّا أهل فلسطين، فإن القلب ينفطر، لأنّ هؤلاء الناس البريئين بكلّ ما تعني الكلمة من معنى هُم ضحايا نظام إمبريالي واستعماري تتقدّمه الصهيونية بالمَدافع وسلاح الجوّ والمدفعية، وبأفراد قلوبهم مجبولة على الحقد والكراهية والفوقية والمجزرة التي لا حدَّ لفجاجتها.

حرب همجية ضدّ الطبّ ليس لها نظير في العالم

ينفطرُ القلبُ على الأطبّاء والطواقم الصحية في غزّة وهُم يكابدون الألم والمرّارة تلو المرارة علّها تنقذُ شخصاً من الموت، ويموتُ الناس من إصابات شتّى، منها إصابات من الممكن جدّاً إنقاذ المصاب بها لو توفّرت أبسط الأدوية، ولو لم يُنهك ويستنزف كادر النظام الصحي إلى هذا الحدّ المريع.

يسقطُ كثيرٌ من الأطبّاء والطبيبات شهداء، ويُسجنون ويعذّبون ويهانون وتُنتزع أبسط معاني الكرامة الإنسانية عنهم. الإبادة، والظلم والقهر، وكلّ هذه الكوارث تتساقطُ على الشعب الفلسطيني الذي ليس له ظهير عالمي يسانده وليس عنده موارد كافية للصمود والاستمرار. يكافحُ هذا الشعب الأسطوري بكلِّ ما أوتي من إرادة لكي يبقى على أرضهِ التي تشرّبتْ بالدم والدموع والحزن الأبدي.

النظام الصحّي البطل في غزّة ينهار، وتُمعنُ "إسرائيل" في تفكيكه وقتل الأطبّاء الذين يعملون فيه. وتمتدّ المجزرة لأساتذة الجامعات في غزّة، وكلّ من له عقل يفكّرُ أو يد ماهرة في غزّة. هذه هي "إسرائيل" التي قال رئيسها إنها تحاربُ نيابة عن الحضارة الغربية، ومنظومةُ الحضارة الغربية، وخصوصاً الإعلامية والسياسية والاقتصادية، تجاري هذا الخطاب الخطير والبربري بمضامينه.

الحربُ الممنهجة ضدّ الطب هي مثال صارخ على التخلّف والهمجية التي قلَّ نظيرها في هذا العالم. استحضار الحضارة لتبرير هذه الجرائم ما هو إلّا تمترس خلف منظومة شريرة وعنجهية قاتلة، وهو كذلك انحطاط لمفهوم الحضارة الذي كثيراً ما استُخدم لتبرير المجازر.

ما هو المستشفى؟ ما هو الطب؟ ما هو النظام الصحّي؟ بالنسبة للمريض هذه هي الأماكن الدافئة والأيادي التي ما إن تدخل في رعايتهما حتى تشعر بأنّك قريب من النجاة، شخصٌ ما في مكانٍ آمنٍ وهادئٍ سيأتي ويحاول قدر ما استطاع أن يشخّصَ حالتكَ ويعالجك، وفي ذلك شعور بالطمأنينة أنّ هنالكَ محاولة ما تجري لإنقاذ جسدكَ الضعيف وتقويته نحو الشفاء والعافية. وعودة الصحة هي أفضل هدية يمكن أن يتلقّاها الإنسان، فيشعر بالامتنان العميق لمن أسهم في عودتها من طبيب أو ممرض.

أمّا أن تُستهدف المشافي وتصبح حيّزاً للحرب والجريمة الإسرائيلية تحتَ ذرائع يندى لها الجبين، ففي ذلكَ ما يشيبُ له العقلُ والروحُ، ويدنسُ أي معنى للإنسانية التي لا بدَّ منها رغم الظلم والقتل المريع والعربدة التي لا مثيل لها في التاريخ الحديث.

نتذكّر ثلّة من أطبّاء وطبيبات فلسطين الشهداء بكلِّ الحب والامتنان والحسرة: رزان النجار، ودعاء عصام شموط، وشيماء أبو عوف، وأسماء الأشقر، ومدحت صيدم، وهمام اللوح، وأيمن أبو العوف، ومعين العالول، وميسرة الريس، وأحمد حسن، وعبد الكريم البواب، وكثيرين من المداوين لجراح الشعب الفلسطيني الكبيرة... ونستذكر ثلّة من الأطباء الذين جرى أسرهم: محمد أبو سلمية، وخالد حمودة، وغيرهم من المغلوب على أمرهم الذين عانوا من قتلِ أهلهم وأحبّائهم، مثل العظيم خالد حمودة.

كلّ هؤلاء الأطباء وغيرهم الكثيرين هم ثلّة نبيلة، بل أنبل الأرواح، من الشعب الفلسطيني البطل. نتذكّر وجوههم وكلماتهم وهُم يصرّون على إنسانيتهم في وجه الهمجية الإسرائيلية، ونتذكّرُ وجوههم المليئة بالحبّ والفزع والإيمان والصبر والغضب، وغيرها من المشاعر التي تعتصر قلوب كلّ أبناء وبنات الشعب الفلسطيني.

هؤلاء هُم من وضعوا أيديهم على الجروح وداووها، ومنهم من فكّر يوماً باكتشافات تجارب طبّية عظيمة ليفيدَ البشرية التي تخذلهم اليوم، ومنهم من سافر وكانت عنده طموحات وأحلام للرقي فكراً وروحاً وطبّاً. ذكراهم هي عناقُ قلوبنا لهم. هؤلاء طبيبات وأطبّاء أجلاء، أسماء تستحقّ أن تحلّقَ في الملحمة الأسمى في العصر الحديث.


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

المساهمون