لا يكاد يُذكَر تي. إس. إليوت (أو "الجرذ العجوز"، كما كان يحلو لـ عزرا پاوند أن يناديه) إلَّا وتحضر في الذهن، على الفور، تحفته الشعرية "الأرض الخراب"، التي باتت أيقونة شِعر الحداثة في القرن العشرين. ولا نكاد نقرأ "الأرض الخراب" (أو "الأرض اليباب"، بحسب ترجمة أُخرى) إلَّا ونتساءل: مَن هي "فتاة زنابق الياقوت" التي يتحدّث عنها الشاعر الأميركيّ ـ البريطاني (1888 - 1965) في هذه القصيدة ؟
ظَلّ "سرُّ" هذه الفتاة دفينًا حتَّى ظهر، في الثامن من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، كتابُ ليندل غوردن: "فتاة زنابق الياقوت: مُلهمة تي. إس. إليوت السرّية" (The Hyacinth Girl: T. S. Eliot’s Hidden Muse)، عن دار "نورتن" في الولايات المتحدة الأميركية، في ذكرى مرور 100 عام على نشر هذه القصيدة الملحميَّة (434 بيتًا)، لأوَّل مرّة، في مجلة "المعيار"، المجلّة الأدبية البريطانية التي أسَّسها إليوت في العام 1922، وحرَّرها بنفسه حتى احتجابها في العام 1939. ولم يكن هذا أوَّل كتاب تضعه ليندل غوردن (1941)، البريطانية المتخصّصة في كتابة السِّيَر، عن إليوت، فقد سبق أن أصدرت في العام 1977 كتابها الأوَّل: "سنوات إليوت الأولى"، وأتبعته في العام 1988 بكتاب "حياة إليوت الجديدة"، ثُمَّ بكتاب "تي. إس. إليوت: حياة ناقصة" في العام 1999.
وكي تؤلّف كتابَها الكبير هذا (512 صفحة)، نقَّبت غوردن في 1131 رسالة بعثها إليوت إلى امرأة تُدعى إميلي هييل، تعرَّف إليها حين كانت طالبة تدرس الفلسفة في "جامعة هارڤارد"، واعترف بحبِّه لها قبل مغادرته بوقت قصير إلى أوروبا في العام 1914. وتكتشف المؤلّفة أنَّ إليوت اعترف في رسالة غرامية، مشبوبة العاطفة، أرسلها إلى هييل بعد ثماني سنوات على نشر "الأرض الخراب"، بأنَّها هي "فتاة زنابق الياقوت" التي يذكرها في القسم الأوّل من القصيدة، حين يقول: "أعطيتَنِي زنابقَ الياقوتِ لأوَّل مرَّةٍ قبلَ سنةٍ/ فسمُّوني فتاةَ زنابقِ الياقوت".
يُفصح في رسالة له عن هوية "فتاة زنابق الياقوت" التي أحب
وليس هذا الوصف الوحيد الذي أطلقه إليوت، في أشعاره، على إميلي، بل إنه، مثلما تؤكّد غوردن في مقدِّمة كتابها هذا، قد خلع عليها أوصافًا أُخرى لا تقلُّ دلالات الوصف الواحد منها عن المعاني العميقة الثاوية في الأوصاف الأخرى: "الفتاة الباكية"، و"وردة الذاكرة"، و"سيِّدة الصمت"، و"شهيدة المسرح ونجمته" (عملت إميلي طيلة حياتها مدرِّسةً للدراما وممثّلةً مسرحيَّة). ألَمْ يصرخ إليوت في مطلع قصيدة "الفتاة الباكية" (مختارًا أن يصوغ العنوان بالإيطالية: La Figlia che Piange)، قائلًا، وهو يقتطف الكلام من فرجيل، واضعًا إيَّاهُ، بأصله اللَّاتينيِّ، عتبةً للقصيدة: "بأيِّ اسمٍ سوفَ أعرفُكِ، أيَّتها العذراءُ؟" (O quam te memorem virgo).
ثُمَّ يناديها، قائلًا: "انسجِي أشعّةَ الشمسِ في شَعركِ، انسجِي أشعّةَ الشمسِ ــــ/ وضُمِّي أزهاركِ إليكِ بدهشةٍ يعتصرها الألمُ ـــ/ ثُمَّ اقذفيها بقوِّةٍ على الأرضِ واستديري/ والغيظُ الشريدُ في عينيكِ:/ ولكنِ انسجي أشعّةِ الشمسِ في شعركِ، انسجي أشعّة الشمسِ". ألَمْ ينادي أيضاً في "أربعاء الرماد"، قائلًا، بالمرارة ذاتها: "يا سيِّدةَ الصَّمتِ/ أيَّتها الهادئةُ الحزينةُ/ أيَّتها الممزَّقةُ والكاملةُ أشدّ ما يكونُ الكمالُ/ يا وردةَ الذاكرةِ/ يا وردةَ النسيانِ/ أيَّتها المتعبةُ، يا مَن تهبينَ الحياة".
وكانت هذه الرسائل قد ظلَّت محفوظة، طيّ الكتمان، في أرشيف مكتبة "جامعة برنستن" حتى الثاني من شهر كانون الثاني/ يناير 2020، تنفيذًا للشرط الذي كانت قد اشترطته إميلي على الجامعة، حين تبرَّعت بالرسائل لمكتبتها في العام 1956، بألَّا تُفتَح الصناديق الخشبية الأربعة عشر، التي تضمّ الرسائل، إلَّا بعد مرور خمسين عامًا على وفاة آخِرِ مَن يموت منهما (هي أو إليوت).
تقول غوردن، في مقدمة الكتاب، إنَّ "التَّنقيب في الرسائل كان أشبه بقراءة قصيدة في طور النَّظم". فهي تكشف عن علاقة في صميم إبداع إليوت، مدى حياته، مذ كان في الرابعة والعشرين وحتى أواخر ستِّينيَّاته. فلقد كانت إميلي الأولى من بين نساءٍ أربع لعبن دورًا في تحوُّلات الشاعر كمغترب، وصابئ، ثُمَّ تحوِّله، في نهاية المطاف، إلى رجل "خُلِق من أجل الحُبّ".
وأمَّا ثانيةُ الأربع اللواتي كُنَّ المحور الذي دارت حوله سيرورة إليوت الإبداعيَّة، فهي ڤيڤيان هاي - وود (1888 ــ 1947)، زوجته الأولى، التي تزوّجته وهو في السابعة والعشرين من العمر، بتشجيع من عزرا پاوند كذريعة لبقاء إليوت في لندن، فانتهى بها الحال نزيلةَ مصحّة للأمراض النفسية حتى وفاتها في العام 1947.
التَّنقيب في أرشيفه كان أشبه بقراءة قصيدة في طور النظْم
وكان إليوت في العام 1933 قد انفصل (دون طلاق رسميٍّ) عن ڤيڤيان، "المرأة التي دمَّرته كإنسان وصنعته كشاعر" (بحسب عبارة تريزا، زوجة شقيق إليوت، نقلًا عن كتاب الويلزيَّة كارول سيمور جونز، "ظلٌّ مرسوم: حياة ڤيڤيان إليوت"، 2001) موافقًا في العام 1938، بعدما اشتدَّ بها المرض، على إيداعها المصحّة، برسالة بعثها إليهم، رفقةَ الأوراق القانونية اللَّازمة، وهو خارج البلاد، ولم يكلّف خاطره حتى عناء الحضور شخصيًّا، ولم يرها في حياته بعد ذلك مطلقًا.
هذه الحادثة "المريرة" ــ حادثة تخلِّي إليوت عن ڤيڤيان عندما كانت في أمسِّ الحاجة إليه ــ كشف عنها كتاب جديد آخر، وضعه الشاعر والناقد الاسكتلندي روبرت كراوفورد بعنوان "إليوت بعد الأرض الخراب" (Eliot After the Waste Land)، صدر في الولايات المتحدة نهاية شهر آب/ أغسطس الماضي، ضمن كشوفات أخرى، من بينها أنَّ إليوت، حين علم بإيداع إميلي الرسائل في عهدة "جامعة برنستن" الأميركية، قام بإحراق رسائلها إليه (لم تنجُ سوى 8 منها فقط)، منكرًا حبَّه لها، في بيان مكتوب، أعدَّه في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 1960، موصيًا بقراءته حين تخرج تلك الرسائل إلى العلن، ومصرِّحًا فيه بأنَّها كانت "مادّية"، وأنَّ زواجه بها كان سوف يدمِّره كشاعر. الأمر الذي دفع الناقد الأميركي مايكل ديردا، في مراجعته لكتاب كراوفورد، التي نشرها في صحيفة "واشنطن بوست" في 28 أيلول/ سبتمبر الماضي، إلى القول "إنَّ المرء قد يفقد احترامه الشخصي لإليوت جرّاء فعلته الجبانة تلك... إنَّ عظمة إليوت هي على الورق فحسب".
وكانت ماري تريڤليان (1897 ـ 1983) ثالثةَ الأربع اللواتي شغلن "تاريخ إليوت السرّي"، بحسب الوصف الذي استخدمته هيذر كلارك، صاحبة كتاب "المذنَّب الأحمر: حياة سيلفيا بلاث القصيرة وفنُّها المتوقِّد" (2020)، حين تحدَّثت عن الكتاب الجديد الذي أصدرته الناقدة إريكا واغنر (استنادًا إلى مذكِّرات ماري نفسها، والتي تظهر إلى العلن لأوَّل مرَّة) تحت عنوان "ماري والسيِّد إليوت" (Mary and Mr. Eliot)، الصادر في بريطانيا نهاية تشرين الأول/ أكتوبر من هذا العام، والذي يتناول علاقة "الصداقة والرغبة المكبوتة والأسى" التي دامت نحو عشرين عامًا بين إليوت وماري التي كانت ترافقه إلى الصلوات في الكنيسة، وتقضي معه أوقاتًا حميمة يطهو لها خلالها النقانق طعامًا للعشاء، ويذهب معها في رحلات قصيرة، ساردًا لها ذكرياته المؤلمة عن زوجته الأولى ڤيڤيان.
ولكنَّ ذلك "الحبَّ الأفلاطوني" لم ينتهِ مثلما أملَتْ ماري أن ينتهي، فلقد أوصلها إليوت إلى "قناعة بأن أيَّ ارتباط بينهما مستحيل بالنسبة إليه أبدًا". لاحقًا، في العاشر من كانون الثاني/ يناير 1957، تزوّج إليوت بڤاليري فلتشر، المرأة الرابعة في حياته، فانحلَّت عرى العلاقة التي جمعته بماري.
كانت ڤاليري في الثلاثين من عمرها حين تزوّجت إليوت وهو في الثامنة والستّين. ويشير كراوفورد في كتابه الآنف الذِّكر إلى أنَّ ڤاليري كانت من أشدِّ المعجبات بالشاعر، مذ سمعت، وهي في الرابعة عشرة من عمرها، الممثّلَ والمخرج المسرحي جون غيلغود يقرأ قصيدة "رحلة المجوس" (1927)، مثلما أسرَّت بذلك إلى الروائي تشارلز مورغان في أثناء عملها سكرتيرة له، قبل أن تقنعه بأن يحصل لها على وظيفة في دار "فيبر"، حيث كان يعمل إليوت محرَّرًا للشعر، فقابلت إليوت أخيرًا في شهر آب/ أغسطس 1949، وباتت سكرتيرته الشخصيَّة على الفور.
ملأت ڤاليري حياة إليوت الخراب، فكانت المرأة الوحيدة التي كتب لها قصائد إيروتيكية في حياته. وظلّت تلك القصائد الثَّلاث التي تصف "معجزةَ نومهما معًا"، طيّ الكتمان، في دفتر يوميات إليوت، حتى العام 2015، حين نشرتها دار "فيبر"، رفقةَ أشعاره المعروفة وترجماته الشعرية، وقصائد أخرى لم تُنشر في كتاب من قبل، في مجلّدين (2032 صفحة). كانت ڤاليري، بالنسبة إلى إليوت، مثلما تصوِّرها القصائد، هي "الفتاة الطويلة التي يلهو معها": "أحبُّ فتاةً طويلةً. وحينَ تجلسُ على رُكبتي/ ولا شيءَ عليها، وأنا لا شيءَ عليَّ/ أستطيعُ أن آخذَ حلمتها بينَ شفتيَّ/ وأمسِّدها بلساني".
ولعب ظهور هذه القصائد الإيروتيكيَّة إلى الجمهور دورًا بارزًا في تفنيد المزاعم السابقة التي كان البعض قد أطلقها حول إليوت، سواءً حول عجزه الجنسي أو كرهه للنساء، أو كرهه لليهود، على حدِّ ادعاء الناقد لويس ميناند في مقالة له نشرها في مجلة "نيويوركر" عام 2002، أو حتَّى مزاعم كارول سيمور جونز ــ التي ذكرنا كتابها أعلاه ــ بأنَّه كان ذا ميول جنسيَّة مثليَّة. ولم تكن هذه المزاعم بالمثليَّة الجنسية جديدة، فقد سبق للأكاديمي الكنديِّ جون بيتر أن نشر مقالة بمجلة "مقالات في النقد"، في العام 1952، حين كان إليوت في قمَّة مجده وشهرته ومكانته الرفيعة، بعنوان "تفسير جديد للأرض الخراب"، زاعمًا أنَّها "مرثيَّةٌ مِثليَّةٌ" لجان ڤيردينال، طالب الطبِّ، الذي كان مثليًّا. والتقى إليوت وڤيردينال في باريس، في أثناء دراسته في "جامعة السوربون" عام 1910، بعد تخرجه من "هارڤارد"، وأصبحا رفيقين حميمين، لإعجابهما المشترك بشعر جول لافورغ، ثُمَّ افترقا، بعد عام من ذلك، ولم يلتقيا أبدًا، حتى وفاة جان مقتولًا في معركة غاليبولي في العام 1915، وخاصّة أنَّ إليوت كان قد أهدى كتابه الشعري الأول، "بروفروك ومشاهدات أخرى" (1917)، إلى ڤيردينال، ثُمَّ وسَّع الإهداء في طبعة 1925، ليضمَّ إليه عتبة نصيَّة استلَّها من "مطهر" دانتي: "تستطيع الآن أن تفهم مقدار الحُبِّ الذي يستعرُ فِيَّ نحوك، فأنسى خُيلاءنا، وأعامل الأشباح كأنَّها أشياء جامدة".
لا تختلف سيرة "الأرض الخراب" عن سيرة إليوت وحياته المعقدة
ولمَّا سمع إليوت بهذا "التفسير الجديد"، هدَّد صاحب المقالة ومحرِّر المجلة بمقاضاتهما قانونيًّا، فأُتلفَت معظم أعداد المجلة وطُلِب من المكتبات التي استلمت نسخًا منها أن تزيل المقالة من المجلة على الفور. ثمَّ، بعد خمسة وعشرين عامًا، نشر جيمز ميلر كتابه "أرض خراب تي. إس. إليوت الشخصيَّة: التعوُّذ من الشياطين"، مُطلِقًا فيه، مرَّة أخرى، المزاعم ذاتها، بناء على قراءته الشخصية لـ"الأرض الخراب" و"رباعيَّات أربع"، منطلقًا من تلك العلاقة التي جمعت إليوت بجان ڤيردينال. أخفق كتاب ميلر إخفاقًا ذريعًا في التدليل على مزاعمه، خارج سياق تفسيره "الاعتباطيِّ" للغة القصيدتَيْن من منطلق مِثليٍّ، حتَّى نسيته الأوساط الأدبية والأكاديميَّة تمامًا. ولكنَّ الكاتب لم يتراجع عن سعيه، فأصدر في العام 2005 كتابه "تي. إس. إليوت: صناعة شاعر أميركي"، مردِّدًا فيه، من جديد، الافتراءات ذاتها، لدرجة دفعت الشاعر البريطاني مارك فورد، في مقالة بعنوان "فتى زنابق الياقوت"، نشرها في "لندن ريڤيو أوڤ بوكس" (2002)، إلى القول إنَّ ميلر ليس أكثر من "مُخبر سرّيّ على شاكلة مخبري الحقبة المكارثيَّة، يريد إقناع قرَّائه بأنَّ إليوت كان مِثليًّا".
ولكنَّ الكشف عن القصائد الحسيَّة، هذه، يُظهِر إليوت، على نحو لا يرقى إليه شكٌّ البتَّة، ذلك العاشق اللعوب والماجن، الذي يتلذَّذ بالجسد الأنثوي، وليس كما زعم البعض، إلى الحدِّ الذي دفع ميلر في كتابه إلى القول إنَّ "فتاة زنابق الياقوت" هي إشارة إلى رجل وليس إلى امرأة! ففي قصيدة "النوم معًا"، على سبيل المثال، نراه يستيقظ في الليل من النوم إلى جانب حبيبته، كي يلتذَّ بمتعة النظر إليها، والإنصات إلى أنفاسها العميقة، مطوِّقًا جسدها العاري بذراعه، ويده تقبض على نهدها الذي تندفع حلمته إلى منتصف كفِّه المرتعشة بالحنان. ثُمَّ نراه يصوِّرُ كيف تمتدُّ أصابعه بنعومةٍ إلى سُرَّتها وترتاح على الشَّعر الكامن بين فخذيها. وفي قصيدة "كيف نلهو معًا، الفتاة الطويلة وأنا"، يصوِّر سعادته باللَّهو مع ڤاليري (الفتاة الطويلة) وقد تعرَّيا تمامًا: "أُحبُّ فتاةً طويلةً. وحينَ نستلقي في السريرِ/ هي على ظهرها وأنا مُمدَّدٌ فوقَها/ وأعضاؤنا الوسطى مشغولٌ بعضُها ببعضٍ/ أصابعُ قدميّ تلهو معَ أصابعِ قدميها ولساني معَ لسانِها/ وجميعُ الأعضاءِ سعيدةٌ/ لأنَّها فتاة طويلةٌ/ وحين تُفرِّجُ فتاتي الطويلةُ ساقَيْها فوق حِجري،/ لا شيءَ عليها وأنا لا شيءَ عليَّ/ وأعضاؤنا الوسطى منهمكةٌ في شُغلِها/ أستطيعُ أن أمسِّدَ ظهرَها وساقَيْها البيضاوَيْنِ الطويلتَيْنِ/ فتغمرنا السعادةُ".
وفي شهر نيسان/ أبريل، "أقسى الشهور"، كما يصفه إليوت، ظهر كتاب جديد (544 صفحة) يتناول "سيرة" قصيدة إليوت "الطافحة بالألغاز"، والتي صوَّرت الانحطاط الأخلاقي والبحث عن المعنى، معنى الحياة، في أعقاب الحرب العالمية الأولى؛ كتاب أنجزه الشاعر ماثيو هوليس، محرِّر الشعر لدى دار "فيبر" (وهي الوظيفة ذاتها التي كان يشغلها إليوت حتى تقاعده) بعنوان "الأرض الخراب: سيرة قصيدة" (The Waste Land: A Biography of a Poem)، وصدر عن دار "فيبر" البريطانية منتصف تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، على أن تصدر الطبعة الأميركية في نهاية هذا العام.
جاء الكتاب تزامنًا مع الاحتفالية الخاصّة التي أطلقتها دار "فيبر" في بداية هذا العام، بالتعاون مع "مؤسّسة تي. إس. إليوت"، بمناسبة مرور قرن على ظهور القصيدة التي يعدُّها النقاد وقرَّاء الشِّعر، على حدٍّ سواء، واحدة من أعظم قصائد القرن العشرين قاطبة؛ وتزامناً أيضاً مع قيام الدار، مطلع هذا العام، بإصدار تسجيل جديد للقصيدة، رفقة قصائد أخرى، بصوت إدواردو باليريني، الممثّل الأميركي الذي يعدُّ "واحدًا من أفضل قرَّاء الأدب في العالم اليوم... والذي يكفي اسمه وحده لكي يجذب الجماهير إلى أيِّ كتاب صوتي"، بحسب تصريح كلير ريهيل من "مؤسّسة إليوت" (سبق أن صدر تسجيل صوتي لقصائد إليوت الكاملة بصوت الممثّل الإنكليزي جيرمي آيرونز والممثّلة الإنكليزية آيلين آتكنز في العام 2018)؛ وتزامناً أيضاً مع إصدار الدار طبعة جديدة من المخطوطة الأصلية للقصيدة في نسخة ملوَّنة هذه المرَّة.
يعيد هوليس، في هذه السيرة الجديدة، "تشييد نشأة القصيدة، باعثًا الحياة في أزمنتها على نحو مُفعَم بالحيوية، ساردًا حكاية الصدمة الثقافية والشخصية التي صاغت القصيدة عبر الحيوات المتداخلة لأبطالها ــ عزرا باوند الذي حرَّرها، وڤيڤيان التي كابدتها، وإليوت نفسه الذي عذابُه الشخصي محبوك في نسيج العمل. النتيجة قصّةٌ أخَّاذة لحيوات تعبر في اتجاهات متعارضة: حياة إليوت نحو النجومية التعويضيَّة، وحياة ڤيڤيان نحو اليأس المتوحِّد، وحياة پاوند نحو العتمة التي لا ترحم".
في الحقيقة، لا تختلف سيرة "الأرض الخراب" عن سيرة صاحبها الذي كانت حياته، في الحقيقة، حياةً خرابًا لم يقدر على مكابدة عذاباتها التي لا تنتهي إلَّا بالشِّعر:
"أنا البعثُ والحياةُ
أنا الأشياءُ التي تتوقَّفُ، والأشياءُ التي تتدَّفقُ.
أنا الزَّوجُ والزَّوجةُ
والضَّحيَّةُ والسكِّينُ التي تذبحُ
أنا النَّارُ والزُّبدةُ".
* كاتب ومترجم من فلسطين