أكلوا الحصرم

28 مايو 2021
أحمد قدور/ سورية (جزء من لوحة)
+ الخط -

باستثناء نجاة قصاب حسن، الذي وضع لمذكّراته عنوان "جيل الشجاعة "، وكان يُشير إلى جيل ما قبل 1945، فإنَّ معظم السياسيّين الذين كتبوا مذكّراتهم عن المرحلة التالية، كان رأيهم أنَّ الحصيلة النهائية التي استخلصوها من تجاربهم السياسية هي الهزيمة. هكذا كان عنوان المذكّرات التي كتبها بشير العظمة "جيل الهزيمة"، وكان عنوانُ كتاب منصور سلطان الأطرش "الجيلَ المدان"، بينما عَنون هاني الفكيكي كتابه بـ "أوكار الهزيمة". وبوجه عام، فإن جيل الآباء الذين يمكن اعتبارهم مؤسّسين لدول الاستقلال، لم يظهر من بينهم سوى عدد ضئيل للغاية، ممّن كانت لديهم الشجاعة على نقد الماضي، ووصف هويته الحقيقية، بينما رفض الباقون جميعاً وضع أنفسهم في قوس أي محكمة.

ولا يُعرف حتى اليوم ما هو الجيل، أي ما المدّة الزمنية التي يمكن أن تكون صالحة لوصف مجموعة من البشر بالجيل، هل هي عشر سنوات أم عشرون أم ثلاثون؟ وبحساب عمر كل من منصور الأطرش وبشير العظمة - وكلٌّ منهما ينتمي إلى تيار سياسي مختلف عن الآخر - نستطيع أن نخمّن الجيل الذي يقصدانه، والطريف أن يجتمع السياسيان على وصف الجيل ذاته.

ويمكن لمقياس الأبوّة والبنوّة أن يكون مناسباً لترسيم الحدود بين الأجيال، وهي وسيلة تعطي نتائج طيّبة (من ناحية المعنى فقط) في المجال الاجتماعي، إذ يُظهر كلُّ جيل جديد من الأبناء قدْراً من التمرُّد والاعتراض في رؤية العالم وفي مواجهة المشكلات، مضادّة لرؤية الآباء، غير أنه بلا جدوى في السياسة، إذ كانت الحياة السياسية العربية تتّسم غالباً بسيطرة شبه مطلقة لجيل الآباء الذين عملوا بكلّ قواهم على تدجين (هذه أكثر المفردات لطافة وليناً) الأجيال التي جاءت من بعدهم، ولم يسمحوا لجيل الأبناء بأن تكون لهم آراء سياسية مستقلّة، أو يكوّنوا أيّ تنظيمات سياسية ذات طبيعة مختلفة عن الأحزاب التي حكموا البلاد بواسطتها، بل إنَّ جميع الأحزاب التي كانت داخل السلطة (وخارج السلطة أيضاً) عملت على إنشاء نُسَخ مكرَّرة منها في تنظيمات شبابية تعمل وفق الآلية ذاتها.

لا نعرف بعدُ ماذا يمكن أن يكتب السياسيّون العرب في مذكّراتهم، فالحقائق لا تجرؤ على الظهور في زمنها العربي، ولا تظهر أيضاً فيما بعد إلّا في حال اطمأنّ صاحب المذكّرات إلى أنّ ما يقوله، أو ما سيقوله لا يخضع للمحاسبة والعقاب من قِبل أي جهة نافذة في الوسط السياسي. وبهذا المعنى فإنَّ السياسي العربي مرغم على الكتمان، إمّا لأنه مشارك في صناعة الهزيمة، أو لأنه لا يجرؤ على قول الحقيقة عن أسبابها.

كانت الذريعة الكبرى لديهم هي أنَّ المصاعب الخارجية منعتهم من إتمام مهامهم في بناء الدولة أو الوطن، غير أنَّ المآلات التي وصلنا إليها أثبتت أنَّ المسؤولية الكبرى تقع على عاتق هذا الجيل الذي استلم السلطة عنوة تحت شعارات كبيرة تتعلّق بتغيير الحياة.

ربما كان المثل العربي مطابقاً لأحوال العرب اليوم، فقد أكل الآباء الحصرم كلَّه وتركوا أبناءهم يضرسون.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون