إنها محضُ صدفة، أن يتواقت معرض محمود العبيدي (1966)، العراقي المقيم في لبنان، مع وفاة التشكيلي الفرنسي بيار سولاج. بين معرض العبيدي وبيار سولاج آصرة لافتة، هي سيادة اللون الأسود، بل وانفراده، في لوحات الاثنين. لا يمكننا لهذا إلّا أن نردّ العبيدي، في معرضه هذا، إلى سولاج. الجرأة على الرسم بلون واحد اختطها سولاج، ولأن اللون الواحد هو الأسود، طغى ذلك على لوحات سولاج. لا بد أن تكرار المغامرة يرتدّ إليه، مع ذلك لا نعني أن لوحة العبيدي تخرج من لوحة سولاج، أو أنها تبني فقط عليها.
معرض العبيدي "أعضاء غريبة"، الذي أُقيم أخيراً في "غاليري صالح بركات" ببيروت (اختُتم في الثالث من هذا الشهر)، هو، بشكل حاسم، وبتمايز صريح، عبارة عن لوحتين، لكلّ مكانُها في المعرض. اللوحة الأولى في مدخل المعرض، والثانية في قاعته. الأولى، التي توزّعت على جدران المدخل، هي تقريباً غير اللوحة التي غطّت جدران الصالة. لها أسلوبها الجامع الذي يتردّد في أعمالها، بل لا يتردّد فحسب، ولكنّه يصل بينها، كأنه ينتقل هكذا من لوحة إلى لوحة، ويُحيلها إلى نوعٍ من سرد واحد. إنها هكذا تكاد تكون، في مجموعها، قصّة واحدة. أي إنها، واحدة تلو الأخرى، تروي الحكاية نفسها، أو تكاد تكون فصولاً وأبواباً لها.
إذا كان هناك من ميزة مشتركة بينها، فهي أنها جميعاً تحوي مفرداتٍ وأشكالاً بالخطّ، بهذا الخط تقترب من أن تكون حكاية، أي تقترب من أن تكون سردية تتكامل من عمل إلى عمل. اللوحة، وبقدرٍ من انتظام وتوازن، وقدرة على تشكيل بيئة خاصّة ومناخ، وما يشبه أن يكون قصة، تلفتنا إلى قدرة هذه الخطوط على أن تتناسق وتتناغم وتفرش على الصفحة نفسها ما يمكن أن يكون مشهداً دينامياً، يؤذن بلعبة متحرّكة وسياق موصول.
لوحات العبيدي لافتة بقدرتها على الحكي والرواية
مثل هذه اللوحة لا تشبه سولاج، ولا تعود إليه. إنّ لها أسْوَدَها الخاص. إنها، برسومها وتشكيلاتها وتركيبها وبنيانها الخفيف والرشيق والمتحرّك والمتواتر، وتصميماتها وقُربها من أن تكون اسكتشات، تصنع لوحتها التي قد تذكّر برسّامي التعبيرية الحديثة في ألمانيا وأميركا، بل قد تذكّر بأعمال رسامٍ راحل مثل جان ميشيل باسكيا. اللوحة هنا لافتة بقدرة الرسم على الحكي والرواية. إنها الرسم في ديناميته وقدرته على أن ينشئ لوحته وحكايته.
نحن الآن لا نزال على المدخل. نحن هكذا في توطئة للمعرض، وفي الطريق إليه. حين ندخل إلى القاعة سنجد أنفسنا أمام المعرض. لسنا الآن أمام رسومات وتخطيطات، نحن أمام لوحات، يشي حجمها الكبير، ويشي تركيبها وأسلبتها بذلك. لسنا هكذا أمام الخطّ، بل نحن مباشرة أمام اللون. الأسْود الذي ينتشر على اللوحات، يبني اللوحة بمجرّد أن يبدأ.
اللوحة، على حجمها، ليست سرداً هذه المرّة ولا حكاية. لها من اللحظة الأولى حضورها ووحدتها وبؤرتها. الأسود هنا ينتشر بنوع من التبقيع، ويكوّن، في تبقيعاته وحركيّته، الشكل المتراوح الذي يكوّن، في فراغاته وامتلاءاته، اللوحة. يمكننا أن نتابع هكذا اللوحات التي هي، هذه المرّة، لوحة واحدة. الأسْود نفسه ينتشر، من عمل إلى عمل. ينتشر بحركاته وتبقيعاته، بحيث إن الصالة، هذه المرّة، تبدو مدموغة بعمل واحد، بل تبدو لوحاتها هكذا مجرّد أمثلة لخيار أسلوبي واحد.
مع ذلك لا نزال نتساءل أين سولاج من كل ذلك؟ لوحة العبيدي سوداء هي الأخرى، لكنّها بأسْود كامد، بأسْود موحِل تقريباً، وليست هنا لوحة سولاج، التي يضيء أسودُها ويغنّي أحياناً وترقص بأشكالها. لوحة العبيدي أقرب إلى أن تكون تلطيخاً، أقرب إلى أن تكون نصّاً أخرسَ، وبناءً من حركة واحدة. هكذا يمكننا أن نميّز بين لوحة المدخل ولوحة الصالة. لوحة المدخل تحكي وتقصّ وتلعب وترقص، فيما أن لوحة الصالة صامتة مكبوتة. ولا يُساهم حجم اللوحة وعرضها إلّا في توسيع هذا الصمت وتكثيفه.
لن نجد سولاج، لا في المدخل، ولا في الصالة؛ سنجد هنا وهناك شيئاً آخرَ. لكنّ لوحة المدخل غير لوحة الصالة، بحيث نحتار في أن نعرف أيهما المعرض. الواضح أن الصالة تدّعي أنها هو؛ ادّعاءٌ قد لا يقنعنا. قد نجد في المدخل الرسمة التي تحكي وتلعب، لكنّنا في الصالة سنجد مدًى من الصمت، من التبقيع الجامد والأخرس.
* شاعر وروائي من لبنان