"أطلال رأس بيروت" لمحمد الحجيري... جواب الصفحة البيضاء

23 نوفمبر 2024
نصادف أفراداً لا تاريخ لهُم في الحرب
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- "أطلال رأس بيروت" لمحمد الحجيري هي رواية تعكس حالة لبنان من خلال شخصيات مثل سمير وسارة، مركزة على الأفراد بعيدًا عن السياسة.
- تتناول الرواية حياة المثقفين والطبقة الوسطى في رأس بيروت، حيث تتشابك حياتهم في سياق اجتماعي معقد يعكس التناقضات.
- تتميز الرواية بلغة تحليلية وسرد بصري، وتنتهي بفصلين يعكسان تحولات الشخصيات، مع بقاء الأطلال كرمز للمستقبل.

"أطلال رأس بيروت"، رواية محمد الحجيري الصادرة عن "دار رياض الريّس"، تستوقفنا أوّلاً بعنوانها الذي هو مرثيّة لمنطقة رأس بيروت، ولا يبتعد عن أن يكون مرثيّة لبيروت، وربّما لـ لبنان كلّه. قد يتّفق ذلك مع قراءتها في الظرف الحالي، لبنان الفقير المُفلِس تحت القصف الإسرائيلي. لكنّ الرواية لا تمرّ إلّا لمحاً في هذا المسار المتصاعد. لن نقترب كثيراً في الرواية من الانقسام الأهلي، أو الانهيار الاقتصادي، أو حرب حزب الله. سنُصادف في الرواية أفراداً لا سيرة سياسية لهم في الأساس، ولا تاريخ لهُم في الحرب. إنّهم أفرادٌ قبل كلّ شيء، وإذا كان ثمّة ما يجمعهم، وهو قائم، فإنّه ضامر في الرواية ويُوجد بعدَ السياسة والصراع الأهلي. يُوجد في مناخ يُشبه فيه "الأفراد" أن يكونوا جيلاً من المثقّفين والطبقة الوسطى.

سمير وملحم وصالح وعلي بلِس وسارة وسهى ليسوا من النمط نفسه، لكنّنا لا نزال نرى بينهم تواصُلاً ما، قد يعود إلى الظرف وإلى المصدر الاجتماعي وإلى الجيل. حتى علي بلِس المتشرّد الصعلوك ينتمي إليهم. لكلّ منهم حياته الخاصة، لكنّنا مع ذلك نشعر بأنّ هذه الحيوات تتقاطع وتتواصل، من داخل وخارج، وأنّ في وسع قارئ الرواية، لدى الانتهاء من قراءتها، أن يشعُر بأنّ ما قرأه قد يكون سيرة جيل، وقد يكون محطّة تاريخية.

وراء هذه الشخصيات ما يُمكن أن نعتبره النموذج اللبناني، أو نموذجاً لبنانيّاً، قد تكون لنا به درجة من التواصل، قد يكون من بعيد سيرة عامّة، لن نكون فيها إلّا بمقدار ما تصلح جوّاً لنا ولسوانا، إلّا بمقدار ما تكون حياة مدينة ومرحلة وتاريخاً موقوتين. مع ذلك لن نجد بين هؤلاء الأشخاص إلّا هذه القُربى التي تتجاوزهم، والتي هي من أمام ومن وراء، لكنّها مع ذلك قائمة جلية. 

لا تبتعد عن أن تكون مرثيّة لبيروت، وربّما للبنان كلّه

ليس بين سمير القارئ الكاتب وبين سارة إلّا هذه اللحظة، التي تدوم طويلاً، والتي هي بهذا الطُّول بفضل المعاناة والخيبات، بفضل الوقت نفسه. لا نفهم تماماً ما بين سمير وسارة، غير لقطة العائلة الواحدة الذكيّة "عواد". غير أنّنا لا نستغرب أن تتزوّج غيره ويتزوّج غيرها، فهذه المفارقة وذلك التعاكُس هُما اللذان يبنيان العلاقة، بل هما العلاقة نفسها. سارة ليست متيقّنة ممّا بينها وبين سمير، سمير متيقّن، لكنّه يقين مضطرب، مثل كلّ يقين في هذه المرحلة، التي ليست سوى حيرة أو حيرات وفصامات وازدواجات.

ليس ملحم زوجها الأوّل سوى وجه آخر لهذه الحِيرة، وصالح زوجها الثاني هو أيضاً كذلك. هنالك هذه المفارقة بين الحبّ والزواج التي قد تكون بنت وقتها. سمير يتزوّج ولا نعرف شيئاً عن ذلك سوى خبر سريع. نحن أمام جيل، أمام شخصين يعيشان بالعكس، يعيشان أقلّ من وقتهما ومن تكوينهما. إنّ ذلك كلّه ليس حقيقياً تماماً، بل هو فوق الحقيقي أو دونه. كلاهما في موضوع الحُبّ والزواج، يرتدّان إلى البيئة والعُرف بينما تبدو أفكارُهما وأشواقهما فوق الواقع. نصّ الحجيري المتماسك، الذي تبدو لغته مصاقبة لروح تحليلية وأسلَبَة مُتمكّنة وسردٍ قادر على إنتاج الصور، والذي يُضمر أحياناً ما يشبه الشعر "الحبُّ يترك وشماً ضخماً في الهواء"، والذي يحوي فصلاً فائقاً عن الوشم أيضاً. نصّ الحجيري هو أيضاً هذه الموازنة الدائمة بين التطلّعات والوافد الفكري من ناحية، والدمغة الواقعية من ناحية أُخرى.

ليست هذه موازنة فحسب، بل هي معاناة، بل هي عقدة واقع ملازمة، لا نرى شخصياته تُعاني هذه المقابلة. إنّها تبدو في أساسها وفي تراثها، إلّا أنّنا نتساءل إذا لم تكُن الأطلال هنا. هل الأطلال هي هذا الواقع الغادر، والذي ينتهي إلى نوع من اللاشيء أو الفصام أو الانقلاب الكامل؟ هكذا يبدو الفصلان الأخيران في الرواية نوعاً من حساب ختامي، ملحم زوج سارة الأوّل يغدو شهيداً جهادياً، وصالح زوجها الثاني يصبح متديّناً. أمّا العِبرة والصورة الكُبرى فتتجلّيان في الرواية التي وعد سمير بها سارة. ثمّ بعد اختفاء طويل توافيها صفحة بيضاء منه مع رسالة إلكترونية يقول فيها هذا نصّ الرواية. في هذه الواقعة نجد الأطلال حقّاً، نجدها في الأمام، لا في الوراء، كما هي عند ملحم وصالح، وسهى التي صارت رجعيّة. هذه أطلال كانت في أصل الرواية في مقدّماتها، فيما أنّ الصفحة البيضاء هي هنا مستقبلها.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون