يكتب أطفال غزّة أسماءهم على أيديهم، ليتمّ التعرّف عليهم، إذا ما نجح المُنقذون، بأذرعهم العارية وأدواتهم البدائية، بانتشال جثامينهم كاملةً من تحت الأنقاض. هذا تفكير سليم، ما دامت أجسادهم الغضّة هدفاً سهل السحق بالنسبة لآلة الحرب الإسرائيلية، حتى فاق عددهم الثلاثة آلاف شهيد.
في بلدان العالم الأُخرى، يتدرَّب الأطفال على الكتابة بتدوين أسمائهم على الدفاتر المدرسية، أو تراب الحدائق، أو حائط الغرفة الأبيض إن كانوا أشقياء، وقد يكتبونه على مواضع من أجسادهم، لكن لأهداف أخرى غير تلك التي تدفع أطفال فلسطين إلى ذلك. دافع أطفال غزّة جدّي، لا علاقة له باللعب أو الشقاوة، لكنّه قد لا يكون مُجدياً دائماً. ماذا لو تناثر الجسد الطري إلى أشلاء؟ كيف سيتمّ ربط اليد ببقية أعضاء الجسم؟ ربما عليهم أن يكتبوا أسماءهم على كل عضو من أعضائهم!
يريد الأولاد ألّا يبقى أهلهم مُتنقّلين بين الخوف والهواجس
على الجانب المقابل، وقبل سبعة عشر عاماً، كان الأطفال الإسرائيليون يكتبون أمنياتهم السوداء التي تمّ تلقينهم إياها على الصواريخ - أذرع "إسرائيل" الطويلة، قبل أن تتوجّه لقصف منازل المدنيّين اللبنانيّين في حرب عام 2006، وهي الصواريخ نفسها التي تمحو معالم الأحياء السكنية في قطاع غزّة اليوم، ومعالم وجوه ساكنيه، وتتمادى في ذلك لتعذّر تطبيق خيار الاجتياح البرّي، لسبب وحيد هو قوة المقاومة.
كتابات الأطفال من الجانبين تمثّل التجسيد الفعليّ لمعنى اختلاف اللغة، وتعبيراتها الأشمل التي تتمثّل في نوعية الخطاب المُوجّه إلى العالم، المُعلِن عن النَّفْس وعقائدها ومكنوناتها، والذي يُمكن معاينته، مثلاً، من خلال إطلاق المقاومة الفلسطينية لأسيرتين إسرائيليتين مُسنّتين قبل أيام، وفيما قالته تلك التي صافحت المقاومين عن معاملتهم لها، وقبلهما في إطلاق سراح أم وابنتها، وقبل ذلك أيضاً في إطلاق سراح أم وطفليها. هذا كلّه يحدث بالتزامن مع حملة اعتقالات وقتل تشتدّ في الضفة الغربية المحتلّة منذ تنفيذ عملية "طوفان الأقصى".
في العادة، يُكتَب اسم الميت على شاهدة القبر. لكن في غزّة، حيث يجري الدفن في مقابر جماعية بسبب غزارة القتل المنهمر من السماء، ومن دون معرفة أصحاب بعض الجثامين نظراً لتشوّهها، أو لعدم بقاء أحد من أفراد العائلة أو الجيران على قيد الحياة ليتعرّف عليها، يتحوّل الجسد نفسه إلى شاهدة قبر.
ينجم هذا الفعل عن وعي مُبكّر، أتى من ظروف حياتهم الصعبة التي أنضجت هؤلاء الصغار قبل الأوان، إذ يهدفون من خلاله إلى طمأنة أهلهم، إن كُتِبَ لهؤلاء النجاة من الغارة ولم يرافقوهم، كعادة الأهل مع الأولاد في كل المشاوير الجديدة والبعيدة. يريد الأولاد ألّا يبقى أهلهم مُتنقّلين بين الخوف والحيرة والهواجس، أن يصلوا إلى جواب سريع بشأن مصيرهم، إذ إنّهم يُبادلون أهلهم الخوف عليهم، كحال الطفل الجريح الذي أخذ يؤكّد لوالده المُصاب بجراح أقلّ منه، والمستلقي إلى جانبه في المستشفى: "تخفش يابا، تخفش... خلص يابا أنا كويس...خليك قوي، خليك قوي يابا".
* كاتب من سورية