أطفال الندى (4): ليكون الأواخر هم الأوائل

04 يونيو 2022
وتتنفس أمّ الزينات بحشرجةٍ وتنقبض وتتسع بين أغراس الزيتون
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "أَطفال الندى"، أبرز أعمال الشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول الماضي، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد" وأحد أبرز كُتّاب فلسطين والعالم العربي.


سأقلب المعادلاتِ إذن، ليكونَ الأواخر هم الأوائل في هذه الرواية التي تُشبه الأسطورة، والأسطورة التي تشبه الرواية.

"إننا مثل أناس هذه الروايات"... تعلّقُ أمّي "وسيحكون عنّا كما نحكي الآن".

ولكن هذه الأماكن كما يبدو أشدّ وحشةً وبُعداً من أن يذكرها أحد، فبين الأودية، وعلى القممِ وعلى امتداد النظر وما وراءه، حيث لا يصل الحسُّ ولا النظر، حدثت مئات وآلاف الحوادث وترددتْ أصداءُ آلاف الحسرات، ومرّتْ في أدغال هذا الصمتِ وجاستْ خلاله آلاف الخطوات. ولا أجد شيئاً من هذا في الكتابة التي تزدهر وتحتلّ مكان هؤلاء الأواخر دائماً.

إنهم الأواخر دائماً، يختلف تاريخهم وتختلف رواياتهم، وهم يتجمعون ويقصّ كلّ منهم طرفاً مما أدركه.

يقصّ الحاج أبو خليل الذي هو يدان ترتجفان ومسبحة، وابتسامة طفل، بصوتٍ رفيع قصة تلك الخيانة الشهيرة التي أدركها حين كان جندياً تُركياً على فراش المرض إذ نصحه جار له بألّا يشرب الدواء الذي أعطوه إيّاه لأنه سمٌ قاتل. وفعلاً كما يقول ما إن أدار الطبيب ظهره حتى سكب كوب الدواء على طرف الفراش، فإذا البطانية تتحوّل إلى رماد. "إنها الخيانة" تلك التي أودتْ بتركيا.

سلسلةٌ من الخياناتِ تكفي لتفسير نشأة الكون نفسه وليس ضياع هؤلاء الفلاحين فقط

ويمجّد والدي ذكرى ذلك الضابط التركي الذي ظلّ على جبل الكرمل يقصف القوات الإنكليزية ويمنعها من التقدّم إلى أن اتّخذوا إليه سبيلاً في شِعاب الجبل وأسروه، فكان أنْ هنّأه الضابط البريطاني على شجاعته وعلى أنه أدّى واجبه.

وتضيف أمّي وهي تروي عن أمّها كيف أنّ القرية خلتْ من الرجال تماماً، واشتغلت النساء بدفن الموتى! وحين أسأل الوالد أين كان يومذاك، يجيبني بأنه كان صغيراً في أيام الحرب. ولهذا لم يذهب إلى الحرب. لقد نجا بسبب سنّهِ الصغير. ومع ذلك ضاع كما تقول أمّي حين توفّي جدّي هو وإخوته. وبدل أن يحفظ لهم عمّهم الأرض اشتراها بمبلغ من المال... وبذّروه!

سلسلةٌ من الخياناتِ تكفي لتفسير نشأة الكون نفسه وليس ضياع هؤلاء الفلاحين فقط. إنهم يجدون لذّةً في تفسير كلّ شيء بالخيانة. فلولاها لم يكونوا هنا ولم تفرّق بهم السبل.

إلّا أن لأمّي تفسيراً نسائياً خاصاً، فقد كانوا ظَلمة إلى حدٍّ كبير. وتتذكّر فلانة التي قتلوها عند البئر. " ياويلهم من الله". وتتذكّر الذين أحرقوا المحصولَ بليل، وتكره خاصة حمولة أو حمولتين من حمائل القرية، ولا تذكر اسم أيٍّ منهما إلّا مصحوباً باللعنة. ولا أدري لماذا حتّى هذه اللحظة.

كيف أنقذ هؤلاء الأواخر المشغولين بالخيانة واللعنات من الظلام الذي رأيتهم يلجونه وهم يبكون أو يتحسّرون أو ينشجون بصمت...؟

الشيخ حمزة يعود مرّةً أُخرى، ويخرج من بيته هادئاً، قصيراً بلحيةٍ بيضاء، يداه خلف ظهره، يقلّبُ طرفَه في ما حوله، وحيداً. ولا أتخيّلُ أحداً معه وهو يصعد إلى أعلى ويترك القرية في هدوئها أو صخبها، صاعداً بين الصيافير ومتوغّلاً في الخُضرة المعتمة، وحين يتعب يتوقّف أخيراً ويجول بطرفهِ بعيداً... فعلى يسارهِ البحرُ والصليبيون، وإلى يمينهِ مرج ابن عامر، وتحت قدميهِ تتنفس أمّ الزينات بحشرجةٍ وتنقبض وتتسع بين أغراس الزيتون.

في هذه الطُّرق كما يقول والدي وحين يسافر المسافر، يحدث أن يصادفه الضبعُ فيقترب منه إذا رآه خائفاً، وشيئاً فشيئاً يتمسّح به وقد يبولُ عليه. ثم يصرخ في وجهه فينضبع الرجل، وتكون تلك النهاية فيأكله الضبعُ أو يقوده إلى مغارتهِ ليأكله على مهله.

"وصادفتُ مرّة ضبعاً" يكمل والدي: "فصرختُ في وجهه، ففّرَ هارباً. وكان لصوتهِ وهو يهرب هديرٌ وحشرجة".

ومرّةً، ولا أذكر اسم ذلك الذي صار بطل هذه الرواية، كان الرجلُ على فرسه. وفجأة اعترضَ طريقه كائنٌ هائل مثل عمودٍ من دخان أو قطعة من الظلام، فتراجعت فرسه، فسحب بندقيته وأطلق رصاصة. وفي الصباح وجدوا الرجلَ متيبّساً على فرسهِ. ولم يكن أمامه غير نعلِ حذاءٍ مثقوب.

الشيخ حمزة ما يزال في مكانهِ... هذا الغامضُ الذي يقرأ الكتبَ كثيراً، بينما تنقل الريحُ إليهِ روائح الدخان، والنداءاتِ البعيدة التي يطلقها العائدون مع الغروبِ من كرومهم. لعلّه كان مثلي يودّ إنقاذَ هؤلاء من العتمة... وإعطاء روايته مداها. ولعلّه مثلي كان يبحث عن أشخاص يستمعون إليه، أو لعلّه كان مجرّد معتوهٍ ضائع في قرية منسيّة. من يدري؟

المهم أنّه قالها... أو هكذا نُقل عنه: "ستخرجون منها، وسيتحوّل وادي الملح إلى غابة... ولن تعودوا إلّا إذا وضع العربُ يدهم بيد المُسكوف".

الحاج أبو خليل قطْرَزَ وهو صغير... أي اشتغلَ مع الحرّاثين، حين نصحه أحدهم أن يترك المدرسة. ويتمنّى شاعرٌ أن يكونَ قطروزاً لقطيعها ولا أدري من هي.

على يسارهِ البحرُ والصليبيون، وإلى يمينهِ مرج ابن عامر، وتحت قدميهِ تتنفس أمّ الزينات بحشرجةٍ وتنقبض وتتسع بين أغراس الزيتون

ويتأسّف الحاج بسبب هذا الجهل الذي جهله حين تركَ العلم. ويبدو ابنه خليل مطيعاً... فهو الكبير الذي تحوّلتْ صلعته إلى ما يشبه الشمّامة... وما زال يطأطئ رأسه أمام والده الحاج، ويستمع إليه بانتباه وهيبة... ذلك القطروز الذي اشتغلَ مع الحرّاثين.

ومع ذلك فإن لخليل حكايات حين يتحدث. إنه متعلمٌ نوعاً ما، ولديه بضعة كتب، ويروي بنبرةٍ هادئة حدثاً ما يزال يؤرّقهُ كما يبدو. ففي إحدى الليالي التي هاجم فيها اليهود "إجزم" اختلط الناسُ ببعضهم البعض، ولم يميّز أحدهم الآخر في الظلام. وكان أن أطلق رصاصة على أحد زملائه. وأدرك خطأه فوراً، ولكنه كتم الأمرَ. يقول: "ثم ذهبتُ إلى شيخ واعترفتُ له بالحادثة. وأفتى الشيخُ بأنه لا يحمل إثماً لهذا السبب، ولكن عليه أن يؤدّي كفّارةً ما".

ألهذا السبب كان كثير الصلاة، خشناً في عقابنا حين نأتي على ذكرِ الله بما لا يليق؟ كان جافّاً إلى درجة كبيرة. يستمعون إليه... وخاصة في تعليم البنات وطريقة تربية الأولاد. وحين ورثتُ بعضاً من كتبه التي تنقَّلتْ معه كان معظمها قصصاً عن حياة الأنبياء... وكتاباً واحداً من جزأين عن عصر المأمون. 

ومع ذلك لا أتذكّر إلّا أنّه كان جافّاً... يخشاه الجميع في العائلة... صارماً لا يكاد يبتسم إلّا حين يجتمع مع الكبار في مثل سنهِ أو أكبر... لقد تركَ كتباً... وخوذةً عسكرية أتذكّرها الآن وقد أُلقيتْ مهملةً حين اكتشفتها في غرفة مهملاتٍ مُغلقة... كان في الخوذةِ بعض ماءٍ ما زال يرقد في قاعها. ولاحظتُ وأنا أقلّبها لونها الأخضر، وبطانتها الداخلية المتآكلة. ولم أجرؤ على السؤال عنها.

"كنّا قرب الحدودِ اللبنانية"... هكذا كان يبدأ قصته وأحدسُ أنّها قصّة الخوذة أيضاً... "حين دخل الجيش اللبناني وقد غطّى جنودُه أنفسهم بفروع الشجر، واتّخذوا مواقعهم كما يتّخذها أي جيش يودّ أن يقاتل، تنفّسنا... وقلنا الحمد لله... ها هم قد جاؤوا أخيراً. وسلّمناهم الموقع فشكرونا ثم أخذونا إلى خيمة كبيرة. وهناك جمعونا بعد أن جمعوا أسلحتنا.

قال أحدنا: "يا جماعة قلبي يحدّثني بشيء". قلتُ: "تعالَ لنرَ". 

خرجتُ من الخيمة فإذا بالجنودِ يحيطون بنا. ونهرني الجندي: "إلى أين؟ عدْ إلى مكانك". وعرفتُ أننا أسرى. وفي اليوم التالي قادونا إلى الشاحنات... ومنها إلى قلعة حلب. وهناك أُطلق سراحنا فعدتُ إلى الأردن والتحقتُ بالجيش الأردني".

تقول التقارير الصهيونية الرسمية عن منطقة الكرمل: "لقد تضاءلتْ سيطرةُ العربِ شيئاً فشيئاً... ولكن بقي هناك في الكرمل عددٌ من القرى العربية الجريئة والعنيدة، وهذه القرى لم تصمدْ فحسب بل واصلتْ منع حركة مواصلاتنا على الطريق الساحليّ".

مِن هذا المثلّث الصغير الذي أطلقتْ عليه التقارير الصهيونية اسمَ المثلث الخَطِر... عين غزال ـ إجزم ـ جبع

وأتذكرُ الآن ملحوظات أمّي عن عقول أهل إجزم العنيدة. وأكتب: "أخيراً وجدتُ من يذكر هؤلاء المجهولين وإن بهذه الصيغة"، فقد كان خليل من أهل "إجزم"... مِن هذا المثلّث الصغير الذي أطلقتْ عليه التقارير الصهيونية اسمَ المثلث الخَطِر... عين غزال ـ إجزم ـ جبع.

عاد خليل إذن مرّةً أخرى. وهذه المرّة في صفوف الجيش الأردني، بعد أن أبعدوه عن الشمال ها هو يعود إلى الوسط. يقول: "في أحد المواقع أسرنا يهودياً فقال إن المنطقة خالية من هناك إلى "بئر سبع" من أي قوات يهودية، لقد توجّه الجميع إلى الجنوب. وكانت فرصة. ولكن لا أوامر".

وأكثر ما كان يُحزنهُ حين يقصّ كيف أنّ طرْدَ اليهود من القدس كان أمراً محقّقاً. يقول: "تقدمنا واكتسحناهم تماماً، فطلبوا منّا العودة إلى مواقعنا. وحين رفضنا بدأتْ مدفعيّتنا تقصفنا. وقد قُتل منّا كثيرون".

الخيانة دائماً. إن الفلاَحَ لا يفهم الحياة إلّا عبر لونين: الأسود والأبيض... الخيانة والأمانة. وبهذين اللونين يفسّر لوحةَ الألوانِ كلّها.. وحتى تلاوين قوس قزح. فلماذا يوجد البنفسجي؟ والأحمر؟ والأصفر؟ وبقية الألوان؟ إنها توجد بفعل كيمياء الصراع بين الأبيض والأسود. 

أتوقّف أمام نصاعة الحزن وبهجة اكتشاف الحقيقة

ومع ذلك فإن أمّي لم تكن ترتاح إلى هذه الألوان المبهجة... "لِبْس الكمال" كما كانتْ تقول... "هو هذه الألوان" وتعني بذلك الرمادي... والبنّي... وربّما الأسود، بسبب الحسرة الدائمة... وأسألها: "ولكنّكم في فلسطين كنتم تلبسون الزنّار الأحمر... والثياب المطرّزة؟"... فتردُّ عليّ: "ذلك كان في البلاد".

سيكون على بقية الشعب إذن أن ترفدَ عتمتنا بالألوان فيما بعد، رغم أن أمّي لا ترتاح إلى ذكرياتها. وأكاد أتهمها بالجهل إلا أنني أتوقّف أمام نصاعة الحزن وبهجة اكتشاف الحقيقة.

تتقدمني الآن وهي تصل إلى "جنين". ثلاث أخوات وطفلان في أحد بساتين "جنين" تحت شجر اللوز يلتحفون السماء في بداية الصيف... تقول أمّي... "كنتُ في الصباح أجمع ما يتساقط من اللوز، وأضعه جانباً في كومة وأمنع البنات من أكل أيّ حبة منه. وكانت صاحبة البستان تأتي وتأخذ اللوز بدون أن تقول خذي هذه لبناتك".

تتنهَّد أمّي. وأستشفّ بين تنهُّداتها ذلك الاحتجاج الصامت على الجحود الإنساني، على غياب الرحمة والشفقة... ذلك الاحتجاج الذي لا تبوح به لأن كرامتها لا تسمح لها بالشكوى. وتنقذها الأختُ الكبرى فتروي قصّة النسوة اللواتي تذاكرن أسماء البنات الصالحات للزواج فيأتي ذكرُ إحداهنّ فتقول امرأة: "البنتُ جميلة... ومؤدّبة. ولكن يا خسارة! إنّها لاجئة".

في أي الفصول نحن؟ وفي أي الأزمان؟ كلّ شيء يبدو كما لو كان خارج هذا العالم... من عمق ذلك الظلام الذي اجتاحنا. ولا بدّ من الغوص فيه حتّى جذوره.  

المساهمون