منذ بداياته وحتى قصائده الأخيرة، لم يتخلَّ الشاعر العراقي الراحل سعدي يوسف عن المساحة الواسعة التي شاء لشعره أن يسكنها، حيث تنقّل، بأريحية، وبتمكُّن، بين عمود الشعر والتفعيلة والنثر، محافظاً على صوتٍ واحد هو صوته الشعريّ الخاصّ، رغمَ الاختلافِ الكبير في طبيعة هذه الأنواع الكتابية.
ومهما اختلف الشكل الشعريّ الذي كتب به صاحب "جِرارٌ بلَون الذهب" ــ الذي غادر عالمنا في مثل هذه الأيام من العامَ الماضي (1934 ــ 2021) ــ، وكذلك مهما اختلف الموضوع الذي تعالجه قصائده، فإنّ دفقاً موسيقياً ظلّ مستمرّاً في نصوصه، حتى تلك الخالية من تفعيلة، من دون أن يعني ذلك وقوعاً في غنائيةٍ سهلة. على العكس، كان غناؤه خافتاً وبسيطاً، قريباً من الكلمات والأشياء التي انبنت منها قصائدُه.
في الذكرى الأولى لرحيله، اختار الشاعر العراقيّ علي محمود خضيّر استعادة سعدي يوسف انطلاقاً من هذا المعمار الصوتيّ الذي بناه الشاعر الراحل، حيث أصدر خضيّر، أمس الأحد، كتاباً صوتياً بعنوان "وشم العودة"، ضمّ عشريناً من قصائد "الشيوعي الأخير"، إضافة إلى قصيدة للشاعر التونسي منصف الوهايبي يرثي فيها يوسف، بعنوان "بورتريه للأخضر بن يوسف: الشيوعي الأخير يهبط من الجنة".
وشملت العناوين التي اختارها خضيّر قصائد مثل "الفرات"، و"مرثيّة إلى بدر"، و"الليالي كلّها"، و"تحت جدارية فائق حسن"، و"في تلك الأيام"، و"خشف على السور"، و"شطّ العرب"، و"سيّدة النهر". وقد رافقت قراءةَ خضيّر لشعر يوسف توليفاتٌ موسيقية وهندسة صوتية نفّذها الفنّان مصطفى نزار.
صدر العمل ضمن أقراص مُدمجة بإنتاج "ليلى ستوديو" بالتعاون مع "راديو البصرة تايمز سكوير"، كما نُشرت قصائد الديوان الصوتي على منصّات إلكترونية مثل "يوتيوب"، و"آبل بودكاست"، و"غوغل بودكاست".
يُذكَر أن "وشم العودة" هو التعاوُن الثاني من نوعه بين علي محمود خضيّر ومصطفى نزار، حيث سبق لهما أن أصدرا، ربيعَ العام الماضي، ديواناً صوتياً بعنوان "أُسافر للمرّة الألف"، شمل أربع عشرة قصيدة للشاعر العراقي الراحل فوزي كريم (1945 ــ 2019).
هنا نصوصُ عددٍ من القصائد التي ضمّها الكتاب.
تَـحَقُّق
قد كنتُ…
يا ما كنت آملُ
والخريفُ يلوِّنُ الغاباتِ بالذهبِ
وبالجوزيّ
أو بالقرمزِ المكتومِ…
يا ما كنتُ آمُـلُ أن أرى وجه العراقِ ضحىً
وأنْ أُرخي ضفائرَه المياهَ عليّ،
أنْ أُرضي عرائسَ مائهِ بالدمع مِلْحاً
أنْ أُطَوِّفَ في شطوط أبي الخصيبِ، لأسأل الأشجارَ:
هل تعرفْنَ يا أشجارُ أنّى كان قبرُ أبي؟
...
...
ويا ما كنتُ آملُ!
خَــلِّـها…
خَلِّ الخريفَ يُـتِمُّ دورتَـهُ
فأشجارُ العراقِ تظلُّ عاريةً
وأشجارُ العراقِ تظلُّ عاليةً
وأشجارُ العراقِ، أنيسُها في السرِّ وجهُ أبي…
■ ■ ■
تحت جداريّة فائق حسن
تطير الحمامات في ساحة الطيران.
ارتفعنا معاً في سماء الحمائم.
قُلنا لسعْف النخيل وللسُنبل الرطبِ
هذا أوانُ الدموع التي تضحك الشمس فيها، وهذا
أوانُ الرحيل إلى المدن الفاضلة.
يقول المناضل: إنّا سنبني المدينة.
تقول الحمامة: لكنّني في المدينة.
تقول المسيرة: دربي إلى شُرفات المدينة
تطير الحمامات في ساحة الطيران. البنادق تتبعها،
وتطير الحمامات. تسقط دافئةً فوق أذرع مَن جلسوا
في الرصيف يبيعون أذرعهم.
يقول المقاول: جئنا لنبقى
تقول الحمامة: هل قال حقّا؟
يقول النقابي: إن السواعد أبقى.
للحمامة وجهان:
وجهُ الصبي الذي ليس يؤكل ميْتاً، ووجه النبيّ
الذي تأكله خطوةٌ في السماء الغريبة.
قلنا لسعْف النخيل وللسنبل الرطب: هذا أوانُ
الدموع التي تضحك الشمس فيها
يدور المحرّك، ينفثُ في ساحة الطيران دخاناً ثقيلاً
ويترك بين الحمائم والشجر المتيّبس رائحةً من شواء غريبة
تطير الحمامات في ساحة الطيران. تريد جداراً لها
ليس تبلغ منه البنادق أو شجراً للهديل القديم.
بنينا ملاذاً لنا، وغصوناً تنامينَ فيها ونحن هنا في الرصيف.
يا بلادَ البنادق
إن الحمامات مذبوحةٌ، والجدار الذي قد بنيناه بيتاً وغصناً،
ينزّ دماً أسوداً، ويهزّ يداً مثقلةْ.
وقلنا لسعف النخيل وللسنبل الرطب: هذا أوانُ
الدمـوع التي تضحك الشمس فيها، وهذا أوان
الرحيل إلى المدن المقبلةْ.
ولكننا يا بلاد البنادق كنّا صغاراً، فلم نلتفت
لإله الجنود، ولم نلتفت للحقائب مثقلةً...
نحن كنّا صغارا... أقمنا جداراً ونمنا على مضضٍ،
وطني، زهرةٌ للقتيل، وأُخرى
لطفل القتيل، وثالثة للمقيمين تحت الجدار.
■ ■ ■
الوقفة
حظُّنا أيتها النخلةُ
أن نهتزَّ إنْ مرَّتْ بنا عاصفةٌ:
نقوى مع الريح:
ولا نهوي... لنهوي.
حظُّنا أن نَنشدَ الماءَ
وأن يُحرقنا الضوءُ....
وحظٌ أنّنا نُعطي، ولا نُعطَى
وحظٌّ أننا نلبس ما ننسجه حسبُ،
وحظُّ أن ما يجمعنا والنجم حُبُّ...
...
...
أتراها: نعمةً أم نقمةً؟
لا بأسَ
إنّا لم نزل أيتها النخلةُ
أبهى الواقفين...
■ ■ ■
سيّدةُ النهر
توهّمْتُ أنكِ زاويتي، والمَدارُ الذي يقفُ النجمُ فيهِ
توهّمْتُ نخلَ السماوةِ، نخلَ السماواتِ
حتى حسِبتُكِ عاشقةً،
فانتظرتُ النهارَ الذي يَطْلعُ النجمُ فيهِ.
توهّمْتُ
أَوْهَمْتُ
لكنّ أرضيّةَ الوهمِ يغسلُها ضابطٌ ملَكيٌّ تَـلَبَّسَ عينيكِ
سيّدةَ النهرِ
هم يعشقون، ولا يملكون
ولكنّهم حينما تغرقين
يَمُدّونَ كلَّ الخيوطِ التي قطّعَتْها احتراقاتُهُم.
إنّ كلَّ الزنابقِ في الماءِ
لم تنتظرْ مثلَ عُرسِكِ...
طافيةٌ أنتِ
بينَ الخيوطِ التي قُطِّعَتْ، وانتظارِ المَدار.
■ ■ ■
تَهْليلة
سأرحلُ في قطارِ الفجرِ :
شَعري يموجُ، وريشُ قُـبَّعَتي رقيقُ
تناديني السماءُ لها بُروقٌ
ويدفعُني السبيلُ بهِ عُروقُ.
سأرحلُ...
إنّ مُقتـبَلي الطريقُ.
سلاماً أيها الولدُ الطليقُ!
حقائبُكَ الروائحُ والرحيقُ...
ترى الأشجارَ عندَ الفجرِ زُرقاً
وتلقى الطيرَ قبلكَ يستفيقُ.
سلاماً أيها الولَدُ الطليقُ...
ستأتي عندكَ الغِزلانُ طَوعاً
وَتَـغْذوكَ الحقولُ بما يليقُ.
سلاماً أيها الولدُ الطليقُ!
سلاماً آنَ تنعقدُ البروقُ...