"وحدة الروح" لمحمد خضيّر وذُكاء طارق: أيّ لغة لأيّ أسطورة؟

13 سبتمبر 2022
من ألبوم "وحدة الروح"، طباعة على حرير
+ الخط -

من فضاء التراسُل بين الفنّان وقارئه وُلِدَ هذا العمل، أو هذا الألبوم الصادر مؤخّراً على هيئة كتاب عن "دار الرافدين"، والذي يجمع بين لوحات التشكيلية العراقية المُقيمة بباريس ذُكاء طارق، وقارئها القاصّ والكاتب العراقي محمد خضيّر

يتضمّن الألبوم المُعنون بـ"وحدة الروح" قراءةً في 17 لوحةً ومنحوتةً هي حصيلة ثلاث سنوات من التراسُل بينهما، تُرسل طارق لوحاتها إلى خضيّر عبر ماسنجر فيُعملُ صاحب "حدائق الوجوه" قلمه ونظرَه فيها وهكذا؛ حيثُ النصوص كما اللوحات تعودُ من خلال تشاكُلها الفنّي لتخلقَ نصّاً واحداً أبجديّته الأُولى هي الكلمة الرسم الواحد-ة، وبهذا يدفع العمل بذاته صوبَ قارئ ثانٍ، وإن بقي الأوّل - أي خضيّر - في مكانة مُوحِية يُمرّر إشاراتِه برشاقةِ كاتب القصّة الذي نعرف، دون أن يفصحَ عن علنيّة الناقد المُباشرة. 

في تقديمه للألبوم يصف خضيّر اشتغالات طارق بأنّها "سليلة الصاغة الذين يبحثون في الموضوع الاعتيادي والعام عن خصوصية نادرة". قد يبدو هذا التمهيد في ذاته اعتيادياً من حيث نقديّته، ألم تُطالعنا الفنون الرفيعة بالاعتيادية ودلّلت عليها وتوخّتها مراراً؟ بل إنّ فهماً يتوزّع بين حقول الفنون المختلفة، يرى في الاعتيادية موضوعاً ورسالة مُلحَّة على نقيض من التراكيب الغامضة. 

إذن الاعتيادية بخصوصيّتها النادرة هي ما سعت طارق إلى تمثيله رغم رحلتها الأكاديميّة الطويلة، انطلاقاً من دراستها الأولى بـ"معهد الفنون الجميلة - بغداد" (1974)، مروراً بدراساتها العُليا في باريس من "أكاديمية باريس الأميركية" (1978)، التي اشتغلت فيها على خامة السيراميك، وبدبلوم التخّصص بجداريات الفخّار من "مؤسّسة الثقافة الفرنسية المعاصرة" (1983)، وصولاً إلى نيلها دبلوماً في الرسم على الحرير من "مؤسّسة لوبرانس" (1995)، عليه تصبح الاعتيادية تحدّياً لدى الفنّان بعد كلّ هذه الرحلة. 

يلفت خضيّر إلى الخلفية الحضارية الرافدينية التي تشفّ عنها أعمال طارق، حيث "يتجاوز العمل أصولَه الحِرَفية - التقليدية ليغدوَ نصّاً شعرياً/ شعائرياً بخاصّيته الجِفرية - الروحانية... مستفيدةً من دراستها السومريات في تعزيز الجانب التصوّري لموضوعات الحياة اليومية، وما اعترتها من انكسار وهجرة قسرية بسبب الحروب والقمع الفكري والنفسي". وبهذا تُمكن قسمة اللوحات/ النصوص السبعة عشر إلى خلفيّات موضوعية مشدودة بمقدارٍ إلى الخامة المصوغ منها العمل، وكذلك - وقبل أيّ شيء - إلى لغة خضيّر نفسه، وتموضع "وحدة الروح" ضمن إنتاجاته ومسيرته في الكتابة.

موضوعة الخلق قبّة أسطورية تتناسل في جواراتها معانٍ ورموز

تبرز موضوعة الخلق الإنساني بوصفها قبّة أسطورية كُبرى تتناسل في جواراتها معانٍ ورموزٌ، في مجموعة من العناوين: "نبع الولادة"، و"شمس المعنى"، و"اقتران"، و"الحب بين السماء والأرض". في العمل الأوّل تتراتب ثلاث دوائر هي: دائرة الشمس، ودائرة المولود، ودائرة الرحم بهيئته المشعّة على خلفيّة حريرية (سيراغرافية). تراتبٌ هو نفسه الذي يتناظر في عمل آخر "شمس المعنى" حيث الشمس الرافدينية بنجمتها ثُمانيّة الرؤوس محمولة على ظهر سمكة، تشكيلٌ بألوان طفولية يستنهض ويُذكّر بصرخة المولود في العمل الأوّل. كذلك الأمر في "اقتران" حيث تعود سمكة الخلق لتغلّف جسدين، أو ربّما نهرين هما دجلة والفرات، وإنّ وقّع هلالٌ أسود ذيلَ هذا الاقتران وكأنّه أمارةُ افتراق ولو بعد حين، أو كما يصفه خضيّر بأنّه "خنجر الأب المتربّص" الذي لا يتكفّل بتبديده سوى عملٍ عنوانُه "الحبّ بين السماء والأرض"، تتعالى فيه وتيرة التجريد ويذوب الرمز الرافديني بالإيقاع الصوفي، راقصون أرضيّون سومريّون أربعة يرفعون راقصاً صوفياً سماوياً، إنّها العودة إلى الدائرة، دائرة القلب التي تُظلّل بفيئها حقولاً صفراء وأنهُراً زرقاء.

على مقربة من هذه الاشتغالات وموضوعاتها، هناك مصفوفة متواشجة معها من العناوين تتراوح ما بين الخلق والتسامي مثل: "تحليق"، و"نوح المعاصر"، و"سفينة المُلك"، و"رقابة من الأعلى"، و"حامل الأكوان"، و"ولادة العالم" وفيها لا تطغى الرغبة المنمنماتية إلّا لتسرف في تفصيل الرموز ونثر الأشياء من خلالها؛ السفينة والأشخاص والراقص الصوفي المُحاط بهالة حروفية. عند هذا الحدّ لا بدّ من الوقوف على عنونة خضيّر واستنطاق لغتها، إذ نراها تُحيلُ في أحد وجوهها إلى تلك اللّغة الحُلُمية التي تردّدت في "أحلام باصورا" إحدى أواخر مجموعاته القصصية التي صدرت عام 2016، وحملت لغتُها إشكاليات فنّية صادمة، وأصداء تلك "الأحلام" نلتمسُها في "وحدة الروح". 

يكتب خضيّر تحت عنوان "نوح المعاصر" (زيوسودرا بلغة سومر) واصفاً إحدى اشتغالات طارق: "إنّها رسالة الإنسان الأخير لنوعهِ المهدَّد بالانقراض في عقب كلِّ حرب أو وباء أو اختراع صناعي إلكتروني وبيولوجي رهيب"، وهذا يذكّر ببعض قصص تلك المجموعة مثل "الإصبع الكوني"، و"مزبلة الحواسيب" التي لم يستعر خضيّر مضامينها الأسطورية بناءً على نزوع ماضوي، إنّما انطلاقاً من راهن حداثي على شفا الكارثة.

عمل ينقّب في طبقات اللغة ورمزيتها كما الأركيولوجي

وحدة الروح - القسم الثقافي

وبالبقاء مع اللغة المائية الفيضية حيث "سفينة المُلك" ليست أكثر من تدوير لفكرة التناظر بين اثنين من المتصوّفة، بإطار تجري فيه رموزٌ من أسماكٍ وخيول. أمّا فعلُ الحَمل في ذاته فهو إعادة لسياق متكرّر بغض النظر إن كان حملاً على متن سفينة، أو في رحم أنثوي. وكذلك المحمول ليس أكثر من سؤال أيضاً هل هو الكون الواحد/ الأكوان المتعدّدة، أو المولود الكائن البشري، أو الأمانة التي ناءت تحت ثقلها الجبال. ولمّا كان كلّ حَمل ملزوماً بولادة فإنّ "ولادة العالم" تأخذ مكانها بانسيابية ضمن ذلك التراتُب الكوني، الذي لا يختلّ، إنّما تتجدّد فيه العناصر المتشابهة، وتجدُ بعضها بعضاً كما تجدُ وتستعير وتستلف لغة خضيّر من لوحة طارق، والعكس بالعكس.

بالانتقال إلى المجموعة الأخيرة في الألبوم، تبدو جرعة اللغة الرافدينية آخذة بالكثافة، وكأنّ كلّ مجموعة هي طبقة أركيولوجية من طبقات العراق كلّما نقّبت في واحدةٍ منها تكشّفت عن أُخرى أغزر وأمتع، وهنا تطالعُنا عنوناتٌ مثل: "تجسّدات عشتار"، و"سرير إنكي"، و"بازوزو"، و"هويّة إنانا"، و"لوح مفقود"، و"وجه مزدوج لامرأة"، وهذا المعجم الميثولوجي لا يحتاج لطويل شرح حتّى يقول ما عنده، أو ليفصح عن انتماءاته. يُنبّه خضيّر أن عملية استحضار عشتار في أعمال طارق تخلّقت على أرضية من الانشطار الروح - الفكر، والجسد - الخصوبة، وربّما هذا الانشطار في هيئة الآلهة هو نفسه الذي دوّر اللغة الحروفية المحيطة بكلمات "عشق" الواضحة الفُصحى، و"طسم" الملغزة الطلسمية، "إنّه الفنّ المقرون بأفضل ما تركه الإنسان الشرقي من خبرات يدوية وصناعات فردية وتعبيرات رمزية".

ومن علياء سريره المائي يطلّ "إنكي" (إله المياه والحكمة والمِهن) بوصفه "شبحاً غرافيكياً" عبر عملية "تعزيم سحرية/ سيراغرفية" (حريرية)، على محفّة من المخلوقات المائية، وكأنّه يحاكي بدوره جُملة المحمولين على "الفُلك" بداية من المتصوِّفَين الاثنين وليس انتهاء بزيوسودرا المعاصر الذي لم يتبقّ من طوفانه سوى أهوارٍ عطشى. وعلى الطرف المُقابل، وبعزلة الكائن الناري الوحيد بين الأعمال يحضر "بازوزو بن حنبا" الشيطان الآشوري المُنقاد على خيول الأوبئة والرياح الصفراء "إنّه الكائن العراقي المختفي خلف منعطفات التاريخ ومساراته الخَطرة"، يكتب خضيّر. أمّا إنانا/ عشتار وهويّتها فتعبر الواقع الصلب بتمثال فخّاري منمنم وبتقاطيع بريئة وريفية الملامح، انتقالٌ من الريح العاتية إلى السكينة المُطمئنة، ومن الشيطان المُنفلِت إلى الدمية ذات الشعر المربوط، إذ لا سبيل للسيطرة عليها سوى بضميمات تجمع مركز قوّتها ولا تشتّته، وهل هناك أكثر استجابة ومطاوعة من الطين حتى تُنفّذ فيه آليات السيطرة واللّجم. 

قدّم خضيّر في "وحدة الروح" نصّاً منتمياً إلى لغته الحُلمية الأثيرة في أعماله القصصية الأخيرة، ليس بوراني (الراوي البطل في "أحلام باصورا") مَن يتحدّث ويروي بالتأكيد، إلّا أنّ شيئاً مِن معجمه الفسيح بدا يُخاتل القارئ من وراء أعمال طارق، ومُتقنّعاً بأساطيرها التي تُحايث الراهن، وكأنّه في ذلك يُسدي لنفسه دفعةً تمكّنه من النظر من عَلٍ في أحوال "المملكة السوداء" باكورة أعماله في سبعينيات القرن الماضي.

المساهمون