وسْط تجدُّد السجالات والخلافات بين الجزائر وباريس حول ملفّ الذاكرة، أحيا الجزائريّون، قبل أيام، الذكرى الستّين لمجزرة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1961، والتي ارتكبتها قوّات الأمن الفرنسي بأمر من رئيس الشرطة في منطقة السين، موريس لوبون، ضدّ جزائريّين تظاهروا بشكل سلميٍّ في العاصمة الفرنسية.
بدأت الأحداث حين دعت "فيدرالية جبهة التحرير الوطني" في فرنسا إلى التظاهُر ضدّ قانون حظر التجوال الذي كانت السلطات الفرنسية قد فرضته على الأشخاص المتحدرين من شمال أفريقيا، فاستجابَ لها عشرات الآلاف من الجزائريّين الذين خرجوا إلى شوارع باريس في مظاهرة سلمية تأكيداً لتأييدهم استقلال بلادهم، لكنّ الأمن الفرنسي واجههم بقمع دموي؛ حيث قتل العشرات منهم رمياً بالرصاص قبل أن يرمي بجثثهم في نهر السين، إلى جانب اعتقال وتعذيب أعداد كبيرة منهم.
"17 اكتوبر 1961 بين التاريخ والذاكرة" عنوانُ عددٍ خاصّ من مجلّة "نقد" المتخصّصة في الدراسات الاجتماعية أصدرته قبل أيام تزامناً مع الذكرى الستّين للمجزرة، وعادت فيه إلى تلك الأحداث بأقلام كتّاب ومؤرّخين وباحثين في علم الاجتماع ومخرجين سينمائيّين، إضافةً إلى ملحقٍ تضمّن عدداً من الصور والوثائق التاريخية.
أكّدت الأحداث أنّ المهاجرين الجزائريّين في فرنسا يخضعون لتاريخهم الخاص
تحت عنوان "17 أكتوبر 1961 أو بروز المهاجرين الجزائريّين كشعب خاضع لتاريخه الخاص"، قدّم الأكاديمي والمؤرّخ الجزائري دحو جربال، وهو أيضاً مدير نشر المجلّة التي تصدر باللغة الفرنسية منذ عام 1991، إضاءةً على تسلسل الأحداث، متناولا تأثيرها الحاسم على مسار الثورة الجزائرية (1954 - 1962).
وكتب الباحث الفرنسي المختصّ في التاريخ الاستعماري، أوليفييه لوكور غراندميزون، مقالاً بعنوان "مجازر 17 أكتوبر 1961: من المعرفة إلى الاعتراف؟ ملاحظات موجزة"، تحدّث فيه عن أهمية التذكير بأسباب وتداعيات ما سماه "جريمة دولة" بعد مرور ستّين عاماً على وقوعها، وأيضاً المسؤولين عنها، والأسباب التي شجّعت الدولة الفرنسية على التستّر عليها.
من جهته، كتب المؤرّخ البريطاني جيم هاوس، والذي سبق أن أصدر كتاباً بعنوان "أكتوبر 1961: الجزائريون، إرهاب الدولة والذاكرة"، مقالاً بعنوان "تغيير في النظرة: احتجاجات المرأة الجزائرية في باريس 20 أكتوبر 1961"، وأضاء فيه على المظاهرات التي قامت بها نساءٌ جزائريات في العاصمة الفرنسية بعد أيام من المجزرة، تنديداً بالقمع وتأييداً لاستقلال بلادهنّ.
وبالنسبة إلى هاوس، فإنَّ مظاهرات 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1961 اكتست، على مدار العشرين عاماً الماضية، مكانةً بارزةً في تاريخ وذاكرة حرب الاستقلال الجزائرية في فرنسا، وباتت تحمل أبعاداً سياسية واجتماعية كبيرة.
أمّا محامي "جبهة التحرير الوطني"، نيكول ران، فكتب مقالاً بعنوان "شهادة في 17 أكتوبر 1961: باريس 1961 كان بالإمكان أن تكون باريس 1941-1942" تطرّق فيه إلى الصمت الذي رافق الجريمة؛ إذ "لم يدهم أيُّ قاضٍ أو مدّع عام الأقبية لوقف عملية التعذيب"، والصمت الذي تلاها: "ذهب الفرنسيون إلى أعمالهم، وسكتت الأحزاب السياسية والكنائس والجمعيات؛ فقد كان عهد الصمت والعنصرية".
وكتب موسى قبايلي، الذي كان مسؤولاً عن الخلايا الأولى لـ"جبهة التحرير الوطني" في باريس، خلال تلك الأحداث، مقالاً بعنوان "مأساة 17 أكتوبر 1961 التي عاشها سجناء جبهة التحرير الوطني في سجن فريسنس" قدّم فيه شهادته عن تجارُب عددٍ من نشطاء "جبهة التحرير الوطني" الذين اعتُقلوا في "سجن فريسنس" الفرنسي خلال تلك الأحداث التي شهدتها مظاهراتٌ سلمية قام بها الجزائريّون "لينبّهوا الشعب الفرنسي إلى أنّه يتحمّل مسؤولية الفظائع التي عانى منها الشعب الجزائري، أمام التاريخ والرأي العام الدولي".
أكبر مذبحة للمدنيّين في فرنسا منذ نهاية كومونة باريس عام 1871
وتحت عنوان "لأننا لن نتخلّى عن العدالة أبداً!"، كتب مهدي لعلاوي، وهو كاتبٌ ومخرج سينمائي جزائري من مواليد فرنسا يرأس جمعية "باسم الذاكرة" سبق أن أخرج فيلماً وثائقياً عن الأحداث بعنوان "صمت النهر" (1991)، مقالاً مِن بين ما ورد فيه: "من وقت إلى آخر، في الليل، ما زلتُ أسير على طول أرصفة نهر السين حيث وُلدت، وأشباح أكتوبر ترافقني دائماً".
ويُشير لعلاوي إلى أنّ ضحايا المجزرة تصل إلى الآلاف، معتبراً أنّها أكبر مذبحة للمدنيّين في فرنسا بعد "الأسبوع الدموي" الذي شهد نهاية كومونة باريس عام 1871.
من جهته، عاد المؤرّخ البريطاني المختصّ في تاريخ الاستعمارَين البريطاني والفرنسي، نيل ماك ماستر، في مقالٍ بعنوان "الكتّاب الأميركيون السود، مقهى لوتورنون ومذبحة أكتوبر 1961"، إلى أجواء باريس في خمسينيات القرن العشرين؛ حيثُ كان ذلك المقهى الواقع في قلب باريس نقطة التقاء نشطاء اليسار السياسي والأميركيّين من أصل أفريقي ومناضلي "جبهة التحرير الوطني"، رابطاً بين حركات التحرُّر في الخمسينيات وحركات السود التي وُلدت ردّاً على مقتل جورج فلويد على يد ضابط شرطة في الولايات المتّحدة الأميركية عام 2020.