حين أراد أبو العبّاس أحمد بن طولون (835 - 884 م) تأكيد استقلاله بحُكم مصرَ خارج مظلّة الدولة العبّاسية، عمد إلى تأسيس حاضرة جديدة ليتّخذها عاصمةً لحُكمه. وسُرعان ما شُرع في بناء المدينة التي ستحمل اسمَ القطائع (نسبةً إلى تقطيعها إلى أحياءَ يضمُّ كلٌّ منها طائفةً بعينها)، مُستلهِماً بهاءَ سامرّاء؛ عاصمةِ العبّاسيّين حينها، والتي تُخبرنا كُتب التاريخ بأنَّ اسمَها الحاليَّ ليس سوى تحويرٍ لعبارة "سُرّ مَن رأى".
راهَن ابن طولون على تشييد عاصمةٍ تفعل بالناظرين ما تفعله المدينةُ العراقية الواقعةُ على ضفاف دجلة، والتي نشأَ فيها وشاركَها تاريخ الولادة؛ فقد أبصرَ نور الحياة في بغداد بينما كانَ الخليفةُ العبّاسيُّ، المعتصم بالله، يضعُ، على بُعد مئة كيلومتر، أُوّلَ حجرٍ في عاصمته الجديدة.
عهِد مؤسّس الدولة الطولونية إلى مهندسٍ قبطيٍّ ذائع الصيت، يُدعى سعيد بن كاتب الفرغاني، بتشييد منشآتٍ لعاصمته الممتدّة بين جبلَي يشكر والمقطّم (في القاهرة حالياً)، فشرعَ هذا في مهمّته التي يبدو أنّه أنجزها على أكمل وجهٍ لولا أنْ غاصت قدمُ فرسُ ابن طولون فكبَتْ به وهو يُعاين عينَ ماءٍ شيّدها القبطيُّ، فكانَ أنْ ألقى به في غيابات السجن بعد أنْ جلده خمسمئة جلدة.
تختلف الروايات التاريخية حول مصمّم المسجد وتاريخ بناء مئذنته
ومثلما تسبّبت العمارةُ في دخوله السجن، فقد كانت أيضاً سبباً في خروجه منه؛ إذْ تروي المصادر التاريخية أنَّ الفرغاني أرسل إلى ابن طولون، مِن محبسه، مقترحاً عليه أنْ يبنيَ له مسجداً من دون أعمدةٍ باستثناء عمودَي القبلة، بعد أنْ تناهت إليه رغبةُ الحاكم في بناء مسجدٍ بديع يرتكز على ثلاثمئة عمودٍ لا تتوفَّر إلّا في كنائس مصرَ وأديرتها.
على أنَّ ثمّة مِن المؤرّخين من يدحض هذه الرواية لصالح أُخرى مفادُها أنّ مُصمّم المسجد عراقيٌّ يُدعى أحمد بن محمد الحاسب، وهي روايةٌ تستند، خصوصاً، على تأثُّر مسجد القطائع بتصميم مسجد سامرّاء، ومساجد العبّاسيّين عموماً، بشكله المربَّع ومئذنته الملويّة (الحلزونية)، وإنْ كانَ مُرجَّحاً أنَّ ذلك إنّما كان بطلبٍ من ابن طولون نفسه، مدفوعاً برغبته في محاكاة عمارة العاصمة العبّاسية.
وأيّاً كان مُصمّمُه، فقد فُرغ من بناء المسجد، المُطلّ على القطائع مِن سفح جبل يشكر، عام 879 للميلاد، ليكونَ أوّلَ مسجد معلَّق بعقود قائمة على دعائم من الآجر بدلاً من الأساطين أو الأعمدة الرخامية، وثالث جامعٍ في مصر الإسلامية بعد جامع عمرو بن العاص في الفسطاط وجامع العسكر في مدينة العسكر، ويُصبح الأقدمَ اليوم بعد اندثار المسجدَين الآخرَين.
في محاضرةٍ يُقدّمها عند السادسة من مساء غدٍ الأحد، في "بيت المعمار المصري" بالقاهرة، بعنوان "عمارةُ مسجد أحمد بن طولون"، يستعرض الأكاديميُّ المصريُّ والباحث في الآثار والعمارة الإسلامية، معاذ لافي، تاريخ بناء المسجد باعتباره "أحد النماذج العبقرية في تاريخ العمارة الإسلامية"، بحسب بيان المنظّمين. ويتوقّف لافي عند تطوُّر طُرُز المساجد الجامعة في الإسلام، وخصائصها المعمارية، وفلسفة الأروقة وعلاقتها بالفنّ الإسلامي.
يُركّز لافي، في محاضرته، على الجانب المعماري للمسجد الذي تتوسَّط صحنَه نافورةٌ تعلوها قبّة مرتكزة على أعمدة رخامية، ويضمُّ في داخله ستّة محاريب يتميّزُ الرئيسيُّ منها بزخارفه وشكله المجوَّف، مع إضاءةٍ على الجانب التاريخي الذي يُشكّل محلّ خلاف بين الدارسين والمؤرّخين؛ فمثلما اختُلف حول هويّة مصمّم المسجد، ثمّة أيضاً اختلافٌ حول تاريخ بناء مئذنته؛ إذ يَذهب بعضُهُم إلى أنّها أضيفت إلى البناء الأصلي في زمنٍ لاحق.