"حب وقمامة" لإيفان كليما: المخلّفات هي المستقبل

19 يونيو 2022
في ميلوفيتسه، شمال شرق براغ، عام 1990، قبل انهيار الاتحاد السوفييتي بأشهر (Getty)
+ الخط -

"حب وقمامة" هي تحفة إيفان كليما، الروائي التشيكي، الذي يشكّل مع ميلان كونديرا وبوهوميل هرابال، السابق عليهما، ثالوثاً روائياً بالغ الأهمّية. ليس عنوان الرواية (صدرت ترجمتها العربية عن دار "التنوير" بتوقيع الحارث النبهان) وحده ينطوي على مفارقة، فثمّة مفارقات في كلّ مجال للرواية، مفارقات قد يكتفي الروائي بعرضها وبسْطها، دون أن يفسّرها أو يردّها إلى سبب ما.

لعلّنا لا نفهم، ولا يُسعفنا الروائي بشرح، لماذا يختار كاتبٌ معروف - هو بطل الرواية - الاشتغال بجمع القمامة بعد عودته إلى بلده من الولايات المتّحدة التي عُرف فيها بوصفه كاتبَ مسرح، وعمل فيها أستاذاً جامعياً. عاد إلى بلدٍ كان ما يزال تحت النظام الشيوعي. الأستاذ في جامعة أميركية عاد ليعمل جامعَ قمامة في تشيكسلوفاكيا؛ مفارقةٌ لا يلجأ كليما إلى تفسيرها. هل يمكن أن نردّ القمامة إلى النظام الشيوعي، باعتبارها، واعتبار الشغل فيها، من بعيد أو قريب، من مجازات الشيوعية أو رمزياتها؟ ثم إننا لا نعرف سِرّ اختيار الكاتب لهذه الحرفة: هل هي تجربة أُخرى، خاصّة وأنه، في وقتٍ ما، يقرّر هجرها، كأنه بذلك يختم التجربة وينهيها؟ لن يتطوّع الكاتب لكشف ذلك، بل يتركه لنا، كأننا فيه إزاء قصيدة توكل إلينا مهمّة فكِّها وتأويلها.

ليست القمامة والكتابة هما المفارقتان الوحيدتان، فهناك أيضاً الحيرة بين امرأتين. الأُولى، الزوجة التي سبق زواجَه بها حبٌّ تكفّل الزواجُ بتبريده، بدون أن نعرف حقيقة ما انتهى إليه. كلّ ما في الأمر أنّ الكاتب انتقل إلى حبٍّ ثانٍ، وبقي طوال الوقت مشتّتاً بين العلاقتين. امرأتان، إحداهما طبيبة نفسية، والثانية نحّاتة، وهو لا يملك أن يقرّر بينهما. يُنهي علاقته بالثانية وقتاً يعود بعده إليها. يُخبر الأولى بعلاقته بالثانية، لكنّه يقضي بقية الوقت في خداعها والكذب عليها.

كأننا فيه إزاء قصيدة توكل إلينا مهمّة فكِّها وتأويلها

هذا الحبُّ المزدوج عبارةٌ عن تجربتين تتواجهان، ولكلّ منهما حيثيتها وقوامها، لكلّ منهما حاجتها في محلّها وفي وقتها، ولكلّ منهما حجّتها وأسبابها ومداها. إذا كان الكاتب حسم الأمر في النهاية، وعاد إلى زوجته وهجر عشيقته، فإنّنا في آخر الرواية نجده قد التقى بها، ولا نعرف حينها إذا كان ما يزال مُقيماً على حبّه أم لا. بل يتراءى أنّ افتراقهما ليس إلّا اضطراراً وترتيباً واقعياً. كلام الكاتب عن حبّه للثانية لا يترك أيّ شكّ في حبّه لها، لكنّنا، للمرّة الثانية، نتساءل إذا لم يكن الأمر أكثر من تجربة يخفى معناها حتّى على صاحبها، مثلها في ذلك مثل الشغل بالقمامة، فالكاتب يجرّب فحسب، ولا يسوس تجربته، بل يتركها لمداها.

غلاف الكتاب

للكاتب زمرته من المشتغلين معه في جمع القمامة. إنهم أصناف عاديون من الناس ولهم كل سلوك الناس العاديين، مع ذلك لا ينتهي الأمر هنا. بين جامِعِي القمامة لا نجد فقط كاتباً معروفاً، لكنّنا نجد أيضاً، إلى جانبه، استثناءات مماثلة. كأنّ القمامة هكذا ليست حِرفة عادية فحسب، بقدر ما هي مكبٌّ افتراضي لمجرّبي وضحايا النظام نفسه. إذ من دون أن يقرّر الكاتب ذلك، ومن دون أن يُلقي مسؤولية واضحة على النظام، نرى بتعجّب ذلك المخترع الذي لا يفتأ يصمّم ما لا نعرف حقيقته، وإنْ كنا نستشفّ منه التخييل والوهم. إلى جانب المخترع الخيالي، نجد العازف المريض، الذي لا يجد سبيلاً إلى دواءٍ لمرضه، فالدواء مُكلِف لكونه من بلد آخر.

لا نعرف كم يصيب هذان المثلان النظامَ الشيوعي من دون أن يسمّياه، لكنّنا هكذا نجد معنىً آخرَ للقمامة. اختراع الوهم، مثل العزف المريض، هما أيضاً من القمامة، كما ينتجها مجتمعٌ ونظام. لكنّ عرض القمامة الأخير هو حين يكتشف الكاتب - على الشرفة التي كان يشاهد عليها أعمال نحّات لم نعرفه ولم نعرف اسمه - تماثيل لجامعي القمامة، زملائه، ويتوجّس أنّ صانعتها صديقتُه النحّاتة. هكذا يغدو الفنّ نفسه قمامةً وتكون له قمامته الخاصة. نفهم عندئذٍ كيف يتحوّل الحب ويتحوّل المجتمع إلى قمامة. 

نفهم كيف أنّ نظاماً كهذا، ومجتمعاً كهذا، هما في حقيقة الأمر قمامة، أو أنهما، في نهاية الأمر، أدواتُ تحويلِ كلّ شيء إلى قمامة. نفهم عندئذ، ولو من بعيد، أنّ الحب الذي لا يقاوِم، وينقلب إلى الزواج الذي سبقه، ليس في حقيقة الأمر سوى هذه القمامة. وما يبقى في النهاية حقيقياً وأصيلاً هو ما يمثّله كافكا الذي يخطر باستمرار في الرواية: الصدق.


* شاعر وروائي من لبنان

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون