"جنّة" لعبد الرزاق قرنح: سرد في ظلّ الصورة القرآنية

17 ابريل 2022
عبد الرزاق قرنح في مودينا، إيطاليا، 2006 (Getty)
+ الخط -

يوسف، الشخصية الأولى في رواية "جنّة" (لم تُترجَم إلى العربية بعد) لحائز "نوبل للأدب" العام الماضي، عبد الرزاق قرنح، يلحقه السرد في كلّ مكان. حيث وُلد وعاش طفولته، وصادف العم عزيز ضيفاً في بيت أهله، وحيث انتقل إلى مكان إقامة العم عزيز، الذي صحبه إلى بلده رهينةً بعد أن عجز أبوه عن الوفاء بدين العم عزيز، وحيث جال مع قافلة التجارة على أنحاء البلاد، وعاش عواقبها وعواقب الطواف على سلاطين القبائل الأفريقيين، الذين يوجّههم السحر ويتّهمون القافلة بأنها حملت الفأل السيئ له، فهي مسؤولة عن قتل التمساح لفتاة، وعن وفاة زوجة السلطان، وعمّا فعله الأوروبيون من قبل. 

يوسف، الذي عاش كلّ ذلك، ليس له راوية، ولا هو بطل بمفهوم البطل الروائي، ولسنا نجده يتكلّم إلّا بالكاد، ولسنا نجده يتفاعل مع ما يجري. إنه يتلقّاه فحسب، بدون كثير من ردّ الفعل. يتلقّاه ولا يتصدّى له، كأنّه يحدث لآخرين وكأنّ ليست له كلمة فيه، كأنّه لا يعيشه ولا يحدث له.

نحن الآن في أوائل الرواية وفي أواسطها، لكنّ الأمر ليس كذلك في نهاياتها. هنا يتفاعل يوسف ويتصدّى ويواجه ويقرّر، لكنّ نهايات الرواية ليست كأوائلها. في أوائلها نحن في أفريقيا المشرفة على زنجبار، نحن في زمن سبق الاستعمار وإنْ كان الأوروبيون، وخاصّة الألمان، يتحرّكون من بعيد فيه وينذرون بما سيؤول الأمر إليه، حين يفرضون أنفسهم وتقع البلاد مباشرة تحت أيديهم. إنه زمن سلاطين القبائل، سلاطين القرى والبلدات، والزمن هو أيضاً زمن قوافل التجارة.

يتلقّى يوسف، بطل الرواية، الوقائعَ وكأنها تحدث لآخرين

كلّ هذا وراء مغامرات تختلط فيها التجارة بالسحر والدين، في هذه القوافل عربٌ وغير عرب، لكنّ العم عزيز، وهو الشخصية الثانية في الرواية، يتكلّم العربية، وسنعلم بعد ذلك أن المعلّمة، زوجته، لا تتكلّم غيرها. هذه الفصول الأولى في الرواية هي حشد من الأخبار والوقائع، تكاد جميعها تكون من أفعال القدَر والمصادفات. إننا في زمن انتقالي من التاريخ، ويُنذر بأن يغدو من التاريخ فحسب. لكنْ في نهايات الرواية يخرج الأشخاص من الحشد، ويعودون أفراداً. هنا ليس التاريخ وحده هو الذي يتحرّك ويُنذر ويتقادم. لسنا بعد في الجمع، ولسنا بعد في الوقائع وحدها، إننا مع الأفراد، أو نحن مع الأشخاص الذين يعودون أفراداً.

يوسف، الذي هو على اسم النبيّ القرآنيّ، والذي تظهر من بعيد سيرته في غضون الرواية، يعود فرداً ويستردّ هكذا ذاته. إنه يعود إلى بلدة العم عزيز وإلى الجنينة التي تحيط بداره، والتي هي، في الغالب، مصدر عنوان الرواية التي وردت في بيان جائزة "نوبل". نقع الآن على الجنّة ونقع على ذوات لم نتبيّنها في أوائل الرواية. يوسف الآن هو نفسه وهو حرّيته ومزاجه وفكره.

لن يكون العم عزيز حاضراً أثناء ذلك، ستكون زوجته، المعلّمة، التي أثرت بعد وفاة زوجها الأول، المعلّمة التي تراقب يوسف وهو يطوف في الجنينة، تدعوه إلى زيارتها وتطلب منه أن يتلو صلاةً أمامها، لأن ذلك يشفيها. يفعل يوسف ذلك رغم تحذير صديقه خليل له من أن يلمسها أو يقترب منها، الأمر الذي يصغي له يوسف بدون أن يلجمه عن زيارتها. لكنّ الأمر ينقلب فتقترب المعلّمة منه، ويحاول التملّص منها، فتشقّ قميصه من خلف وتدّعي أنه تحرّش بها.

سنفهم بعد ذلك بقية القصّة، فيوسف يدافع عن نفسه أمام العم عزيز العائد إلى بيته، والعم عزيز يقبل احتجاجه ويصدّقه. لم نطلْ سرد ذلك، فمن الواضح أن رواية "جنة" تقتفي السيرة القرآنية للنبي يوسف وزليخة وفرعون. تقتفي السيرة ولا تُخفي ذلك، فهو واضح جداً، بل إن العم عزيز يتلقّى في النهاية لقب الفرعون. نحن هنا أمام رواية مكتوبة في ظلّ الصورة القرآنية، ذلك يحفّزنا على أن نعود إلى الرواية من بداياتها الى نهاياتها.

لم تكن ليوسف الصبيّ حياة البداية لأنه كان في ظلّ الصورة القرآنية. لم يكن يوسف شخصاً من الواقع، بل صدىً للنبيّ يوسف، كأنّ حيادَه وابتعاده وضمور سلوكِه من آثار ذلك. لم تكن ليوسف حياة في الانتقال التاريخي، لأنه كان وراء التاريخ والجنّةُ زمانُه. هنا العودة إلى الذات أو امتلاكها والوصول إليها. يعود يوسف فرداً، لكنّه يعود أيضاً شخصاً وذاتاً، ويعود له زمنُه وتاريخه، اللذان هما الجنّة نفسها. لن يكون النبي حاضراً في الحلبة التاريخية، لكنّه سيكون حاضراً في هذا الزمن المطلق، الذي هو الجنّة وهو أيضاً اسم آخر للأبدية. لقد أعادت "جنّة" السيرة القرآنية، لكنّها انكتبت في ظلّها وظَلت على أطرافها، الى أن استحضرتها بكاملها، وحوّلتها إلى عِبرة للرواية وإلى عمق لها.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون