"بيروت كُتب": قصّة تطبيع مُعلَن

30 أكتوبر 2022
بنجلون مع مجرم الحرب شمعون بيريس في مناسبة تطبيعية، 1999 (Getty)
+ الخط -

في كلمة افتتحتْ بها كُتيّب مهرجان "بيروت كُتب" (19 ــ 30 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري)، وعدت السفيرة الفرنسية في لبنان، آن غريو، بأن هذا المهرجان الأدبي سيُنَظَّم "بشكل يتلاءم مع واقع وتحدّيات لبنان اليوم"، وبما يتيح "نسْج الروابط مرّة جديدة والتطلّع للمستقبل، دون التغاضي عن الأزمات والمآسي التي تعصف بلبنان".

لكنّ النحو الذي سيأخذه المهرجان، على الأقلّ في ما يخصّ مواقف بعض المدعوّين إليه، سيبدو بعيداً عن "التلاؤم" مع لبنان. ذلك أن المنظّمين ــ أي السفارة الفرنسية و"المركز الثقافي الفرنسي" في لبنان ــ سيتصرّفون كما لو كان "بلد الأرز" لا يختلف في واقعه عن فرنسا، بحيث أن ما يُسمَح به هنا، يُسمح به هناك أيضاً.

هكذا، ستشمل قائمة المدعوّين ــ التي بلغت 110 كتّاب وكاتبات ــ عدداً من الأسماء التي عُرفت إمّا بموقفها الداعم للكيان الصهيوني، مثل الكاتب الفرنسي باسكال بروكنر، أو بتصدّرها التطبيع الثقافي مع "إسرائيل"، كما هو حال الكاتب المغربي ـ الفرنسي الطاهر بن جلّون، مع العِلم أن هذين الكاتبين عضوان في "أكاديمية غونكور"، التي دُعي أعضاؤها ورئيسها لإعلان أسماء المرشّحين لـ"جائزة غونكور" في قائمتها القصيرة من بيروت.

يعترف بن جلّون بصهيونية اثنين من أعضاء "غونكور"

على أن الأمر لم يمرّ دون أن يلحظه المتابعون في لبنان لمحاولات التطبيع، حيث أصدرت "حملة مقاطعة داعمي 'إسرائيل' في لبنان"، في التاسع عشر من الشهر الجاري، بياناً تؤكّد فيه رفضها "استغلال الثقافة وحاجة لبنان إلى أنشطة مماثلة (للمهرجان الفرنكفوني) بهدف التطبيع المقنّع". وأضاف البيان أن "الاحتفاء بالمدافعين عن قتلة اللبنانيين والفلسطينيين هو استخفاف بآلامنا ودمائنا"، مطالباً "باحترام الشعب اللبناني واستبدال مروّجي الصهيونية بغيرهم من الأدباء الذين يدافعون عن إنسانية قضايانا كمثال الكاتبة آني إرنو"، حائزة "نوبل للأدب" لهذا العام، والمعروفة بمواقفها المناهضة لآلة الحرب والاستعمار الإسرائيلية، ودعمها لحقوق الشعب الفلسطيني.

بدوره، خرج وزير الثقافة اللبناني، محمد وسام المرتضى ــ وهو قاضٍ لا نعثر في سيرته المِهنية والشخصية على صِلات قوية بالثقافة، في وقتٍ أبكر من هذا الشهر، بعددٍ من "التغريدات" على تويتر حذّر فيها من "استغلال الحراك الثقافي في سبيل الترويج للصهيونية وخططها الاحتلالية العدوانية الظاهرة والخفية، التي بدأت بالأرض ولن تنتهي بالعقول".

وكتب الوزير أن "التطبيع الثقافي أشدّ ضرراً على الوطن وكيانه ومستقبله من أيّ تطبيع سياسي أو أمني أو عسكريّ"، لكنّه عاد وحذف سلسلة التغريدات هذه لأسباب مجهولة. لكنّ المعلوم والأكيد هو أن كلام الوزير اللبناني جاء في وقتٍ تعمل فيه حكومته، بمباركة من "حزب الله" و"حركة أمل"، على توقيع اتفاق ترسيم للحدود مع "إسرائيل"، وهو ربّما ما يفسّر تركيزه على خطر التطبيع الثقافي على حساب التطبيع الاقتصادي والسياسي.

مقاومة التطبيع الثقافي عليها أن تشمل التطبيع الاقتصادي

وعلى أيّة حال، فإن الأصوات التي علَتْ في بيروت، مُطالبةً بالمقاطعة، وصل صداها إلى باريس، وهو ما لم يرُقْ لبعض المدعوّين الذين وجدوا أنفسهم مستهدفين بالكلام، الأمر الذي أدّى إلى إعلان أربعة كتّاب وأعضاء في "أكاديمية غونكور" انسحابهم من المشاركة، وهُم بيار أسّولين، وإريك إيمانويل شميت، إضافة إلى باسكال بروكنر والطاهر بن جلّون. والتحق بهم الكاتب سليم نصيب، المولود في لبنان لعائلة يهودية من أصول سورية.

وبرّر أعضاء الأكاديمية انسحابهم بسبب "التدهور العام للوضع في لبنان"، بحسب ما نقلت عنه صحيفة "لوريان لوجور" اللبنانية الفرنكفونية، في حين ألقى نصيب باللائمة على الوزير اللبناني وخطابه، بحسب الصحيفة نفسها.

وفي مقالٍ نشره يوم الإثنين وعلّق فيه على القضية، اعترف بن جلّون بأن اثنين من أعضاء الأكاديمية، هُما بيار أسّولين وباسكال بروكنر، "لطالما دافعا عن دولة إسرائيل" أي أنهما ناشطان صهيونيان متحمسان أمّا في ما يخصّه شخصياً، فقد برّر بن جلّون ــ الذي استُقبل أكثر من مرّة بالأحضان من قِبَل مسؤولين إسرائيليين ــ انسحابه بـ"دعم(ـه) اتفاقيات أبراهام التي تعترف بمغربية الصحراء الغربية وباستئناف العلاقات مع إسرائيل"، معترفاً بأن هذا الدعم "قد يجعل منّي صهيونياً".

الملحوظ في كلّ هذا هو أنّ غياب أعضاء "أكاديمية غونكور" الأربعة، المطبّعين مع "ثقافة" الاستعمار الإسرائيلي، لم يؤثّر على مجريات المهرجان، بل وحتى لم يؤثّر على الإعلان عن أسماء المرشّحين في قائمة "غونكور" القصيرة، الذي جرى كما كان مُخطَّطاً، وهو ما يؤكّد أنه يمكن للمهرجانات الأدبية، وللعلاقات الثقافية ــ حتى مع الفرنكفونية وفرنسا ــ أن تجري بشكل جيد من دون الحاجة إلى إشراك مطبّعين فيها.



الدفاع الأوقح

مثل كلّ حادثة تطبيعية ينبري كُتّاب كثُر للدفاع الوقح عن المُطبِّع، والحُجج جاهزة دوماً، فمنها "تاريخ" المُطبّع الأدبي أو السياسي، الذي يوصَف بأنه لا يُجارَى، وأنّنا نحاكم رمزاً عزّ نظيره. في حين لو تمعّنا بنتاج وسيرة كاتب مثل ابن جلّون، فعلى أيّ شيء سنقبض؟ فهو لم يتّخذ الفرنسية لغةً لكتاباته، إلّا وهو مهجوسٌ بتصويبها نحو الانتهازية بالتوازي مع مواقف سياسية مُخزية.

المساهمون