"الموت في مصر القديمة": لغاية في نفس الرومان

13 ديسمبر 2021
تابوت مكتشَف في الفيوم عام 2009 (Getty)
+ الخط -

كثيراً ما ننظر إلى التاريخ القديم باعتباره كتلة واحدة ثابتة، وهذا التوحيد (الوهمي) يُخفي دلالات كثيرة يمكننا أن نستخرجها من التاريخ، وإلّا فما الفائدة من العودة إليه إن لم تكن لكلّ زيارة قيمة مضافة؟

يقع تاريخ مصر القديم في مثل هذا الاختزال، وهو ما يجعل منه أشبه بقطعة متحفية، مقدّرة ومبجّلة، لكنّها تظلّ خالية من الدلالة. لكن الباحثة الفرنسية فاني فيرون Fanny Feron تقترح زاوية نظر مختلفة عن مصر القديمة في محاضرة بعنوان "الموت في مصر الرومانية" ألقتها الخميس الماضي في "جامعة لورين" بمدينة نانسي الفرنسية.

ليست فيرون عالمة مصريّات Egyptologue بالمعنى المعروف، إذ إنّ تخصّصها الأصلي كان في الحضارة الرومانية، ومنه انعطفت إلى مصر من خلال دراسة الفترة الرومانية تحديداً، ضمن مباحث أطروحتها التي ناقشتها في 2017، ثم واصلت تغذيتها بمعطيات أركيولوجية، وصولاً إلى محاضرتها الأسبوع الماضي، وهذا المسلك الخاص بها - من روما إلى مصر - جعلها تقف على إشكاليات قلّما طُرحت في بيئة البحث في المصريات، مثل دراسة كيف تعمل أدوات التفاعل الثقافي في الأزمنة البعيدة، وما الأدوات التي كان يذيب بها الغزاة الهوية القومية للشعوب المغلوبة.

تلفت فيرون، في بداية محاضرتها، إلى أنّ ما جذبها إلى مصر ذائقةٌ منبهرة بالكثير من الرموز البصرية، التي تتجلّى بشكل بارز في المادة الأثرية المتعلّقة بالموت، ومنها توابيت الفراعنة وبورتريهات الفيوم، أي تلك الأقنعة الجنائزية التي كانت تُعتمد في مصر القديمة.

كان ضرورياً السيطرة على الموت في مصر للسيطرة عليها

تشير الباحثة الفرنسية، هنا، إلى أن تخصّصها الأكاديمي في الحضارة الرومانية جعلها تتساءل: هل يوجد أثر للثقافة اللاتينية الغازية على طقوس الموت المصرية؟ مؤكّدةً أنّ النظرة العابرة لن ترى الكثير من الفروقات بين الأزمنة، وذلك هو السبب الذي أفشى قناعة بكون الفترة الرومانية (من القرن الأخير قبل الميلاد إلى القرن الرابع بعده) كانت عابرة في تاريخ مصر، أي لم تترك أثراً في هوية المصريّين. ولكن هذا الشعور بكون الأثر الروماني عابراً يعود - بحسب فيرون - إلى أنّ المادة الأثرية التي اشتُغِل عليها كانت تتضمّن مُسبقاً مثل هذه الاستنتاجات، وسيعني تغيير المادة الأثرية (وهي متغيّرة بسبب التقدّم في النتائج الأركيولوجية) إلى تغيير الكثير من الاعتقادات، مؤكّدة أنّ الباحث في التاريخ اليوم مُطالَب بأن يكون مرناً تجاه متغيّرات البحث وغير متسرّع في أحكامه.

باعتماد اللقى المرتبطة بثيمة الموت، كانت فيرون تشقّ طريقها لفهم التفاعل الثقافي بين حضارتين عادة ما يفصل بينهما المؤرّخون، وهؤلاء كثيراً ما بنوا أطروحاتهم حول ما هو مادي (الحجري من معمار ونقائش) على حساب ما هو رمزي، ومن هذه الزاوية تبدو بورتريهات الفيوم مجرّد تنويع على رمزيات الموت في مصر القديمة، في حين أنها تدلّ على تنقّلات ثقافية ينبغي أن ينتبه إليها الباحث في التاريخ، وإلّا وقع في تعميمات مخلّة تمنعه من إنتاج معنى حول المادة الأثرية التي يشتغل عليها.

إذن، يُمثّل الربط بين توابيت مصر الفرعونية وبورتريهات الفيوم الخط النظري الذي ستتحرّك فيرون وفقه، ومنه ستصل إلى المقولات الأساسية لمحاضرتها، ومباحثها بشكل أوسع. فما الذي نقلنا من تجسيد الآلهة (أنوبيس أساساً، برأس كلب) على التوابيت إلى تجسيد صورة الميّت نفسه؟

كلُّ سلطة مركزية لا يمكنها أن تظلّ محايدة تجاه الموت

كان لا بدّ هنا من إضاءة أشمل حول الموت كمفهموم وفكرة وظاهرة. ولقد أضاءت فيرون بعض النظريات الأنثروبولوجية، في محاولة لتمهيد الطريق أمام ما ستطرحه من فرضيات تأويل. تؤكّد الباحثة الفرنسية أن مركزية الموت، وجَعلِه مرئياً لدى المصريّين، قد لفتت انتباه الغزاة الرومان، وبالتالي كان لا بدّ من وضع استراتيجيات احتواء للموت كظاهرة.

تقول فيرون: "رأى الرومان أنّ من الضروري السيطرة على الموت في مصر للسيطرة عليها"، وقد تجلّى ذلك بادئ الأمر بإظهار الاحترام تجاه معتقدات المصريّين حول الموت، فلم يفرض الرومان طقوسهم خوفاً من إثارة الحميّة القومية التي تهدر فرص الاحتواء، لكن فيرون تشير إلى أن الامر سرعان ما أخذ أبعاداً عملية، إذ بدأت الإدارة الرومانية في فرض إجراءات تتعلّق بالموت، مثل "الإعلان عن الموتى" وتوثيق سبب الوفاة، وكان ذلك خدمة لاستراتيجية الهيمنة المعرفية على مصر، فمن خلال هذه المعطيات يمكن إحصاء السكّان والاطّلاع على مكتسباتهم وأوضاعهم. ولا يخفى هنا أنّ الموت يُمثّل أهم طريقة لانتقال الثروات بين البشر (الإرث)، ولا يمكن أن تظلّ هذه الحركة بعيدة عن مراقبة السلطة.

من المحاضرة

تقول فيرون: "كلّ سلطة مركزية لا يمكنها أن تظلّ محايدة تجاه الموت، وإلّا كتبت بذلك وثيقة موتها". ومن خلال دراستها كيفية "إدارة الموت" تعتقد أنّها وجدت "مرآة رمزية" تعكس خطط الغزاة في دمج السكّان في ثقافتهم، فهذه الإجراءات التي تبدو غير ذات قيمة كانت تقوم بدورها في تغيير طقوس الموت في مصر القديمة، وستعتمد فيرون على مجموعة من صور اللقى الأثرية في المدافن المصرية لتُثبت هذا التحوّل الرمزي الذي يأتي كانعكاس لتلك الإجراءات البسيطة التي تبدو خالية من كلّ بعد أنثروبولوجي.

تقول: "نلاحظ أنّ العناصر التي كانت تصاحب الموتى قد بدأت في التغيّر، فقد انتهت عادات المصريّين بوضع أثمن الممتلكات لمصاحبة الموتى في الرحلة الأبدية، لأنّ وجود رقابة من السلطة يعني أنّه يمكن الربط بين ما يوضَع في المدافن وثروة الأسرة، وهو ما يفتح على مسألة الجبائية، وظهرت بالتدريج طقوس جديدة مثل وضع نسخة من كتاب الموتى، وفي مستوى لاحق باتوا يضعون القطع المعدنية فوق أعين الموتى". وتشير أيضاً إلى أنّه في الفترة الرومانية حدثت دمقرطة للتحنيط، في حين أنّه كان مقتصراً على الملوك والأعيان، وهذا يعني تغيّراً عميقاً في مجمل فلسفة الموت المصرية".

ترى فيرون أنّ الإجرءات الإدارية سهّلت اعتناق ميثولوجيات وافدة لدى المصرين القدامى، بل إنّ النتيجة الرئيسية التي تسوقها هي أنّ المصريّين باتوا يؤكّدون في طقوس الموت الهوية المتعدّدة، وهنا تُظهر من خلال صور توابيت دخول مؤثّرات بصرية ونصية جديدة، مؤكّدة أنّه لا ينبغي اختزال الهوية المصرية الجديدة وقتها في جدل بين تراث مصري خالص وتأثير ثقافي من الرومان، بل يجدر الانتباه إلى وجود مؤثّرات أخرى مثل "الطبقة اليونانية" (أي الفترة الهيلستينية) وبدء تغلغل المسيحية في البلاد.

من خلال فحصها للكتابات الجنائزية، تقف فيرون على أنّ الفترة الرومانية من تاريخ مصر قامت على ثلاثية لغوية - ثقافية تنعكس بوضوح في المادة الجنائزية، وتشير إلى أن استعمال اللغات لا يأتي اعتباطاً، بل يخضع لنظام: فكانت الهيروغليفية المصرية ذات قيمة دينية، واليونانية ذات قيمة اجتماعية ثقافية، أمّا اللاتينية، فهي ذات قيمة إدارية.

هذا النظام يشير إلى أنّ الموتى (من خلال الوصية) وأُسرهم باتوا يتمثّلون التعدّد الثقافي بشكل طبيعي، وهذه الظاهرة هي ما يُسمّى - بمفردات حديثة - التثاقف، مشيرة إلى أنّ المؤرّخين غالباً ما يتحاشون الإقرار بأنّ المفاهيم الحديثة يمكن أن تُفسِّر الظواهر القديمة، وهو ما يُؤدّي إلى تكريس منظورات مثل الطمس الثقافي والإنهاك لتفسير علاقات الأمم القديمة، وهذه المنظورات تُظهر التاريخ القديم كساحة عنف وهمجية. 

تفضّل فيرون أن تقرأ هذا التاريخ باعتباره مساحة من المفاوضة والتحايل حول الرمزيات، ولعلّ الكثير مما وصلت إليه في دراستها لتحوّلات طقوس الموت في مصر القديمة من زاوية التجاذب بين الثقافات يمكن أن يفسّر الكثير من ظواهر التاريخ الأقرب؛ من الاستعمار إلى يوم الناس هذا.

المساهمون