"الفتيات عندَ الفِتيان": في مقاربة الاختِلاط المدرسيّ

04 مايو 2021
من مدرسة في مدينة مونبيلييه الفرنسية (Getty)
+ الخط -

أصدرت جنفييف بيزو، المُؤرّخة المتخصّصة في المسائل التربويّة، كتاباً جديداً، كانت قد اشتغلت على موضوعه منذ سنوات، ويُعنى بتاريخ ظاهرة الاختلاط بين الإناث والذكور في المدارس والمعاهد العموميّة بفرنسا. ويكتسي إصدار هذا الكتاب، الذي يحمل عنوان "الفتيات عندَ الفِتيان: تعلُّم الاختلاط" (منشورات "فانديمير")، في الظروف الراهنة، أهمّيّةً سياسيّة وثقافيّة بسبب الجَدل الدائر حاليّاً حول العَلمانيّة والانطواء وما سَمّته آلة الأحزاب اليمينية بـ"الانفصالية"، وهو ما يَرمون به العائلات المسلمة بدعوى أنّ بعضها يرفض الاختلاط ويعدّه عيباً. فكان هذا البحث جواباً، من أهل الاختصاص، حول خطأ هذه الاتهامات.

ذلك أنّ الباحثة ترى - وبالاعتماد على أرشيفات المدارس وسجلّات التسجيل بها وعلى مُدوّنات القوانين - أنّ ما يقال اليوم حول الاختلاط، أو رفضه واعتباره من أشكال الميْز الجنسيّ والعنصريّ، تعوزُه الدقّة والتأصيل التاريخيّين. والخطر الرئيس إنّما يَكمن في استخدام مُصطلح "الاختلاط" ذاته وما يحيل إليه من تصوّرات فَضفاضة غامضة، لأنّه لا يدلّ على شيءٍ مُحدّدٍ، بل على ظواهر متداخلة.

فبالعودة إلى تاريخ الحركات النسويّة بفرنسا مثلاً، كان المدافعون عن المرأة، في سبعينيات القرن الماضي، يَعْنون به عَكس ما يُفهم منه اليوم، إذ يقصدون به ضرورة نقد علاقة الهيمنة التي لطالما مارسها الرجالُ في المجتمع الذكوري. وهو ما دفع الفتياتِ وقتها إلى المطالبة بأوقاتٍ في ما بينهنّ، حتى يتمكَنَّ من التعبير بأريحية عن ذواتهنّ، ولا يُحرَجْنَ من حضور الذكور. وهذا من معاني رفض الاختلاط الإيجابية التي كانت مَطلوبةً آنذاك.

وأمّا في الإطار الدراسيّ، فإنّ الأمر يختلف، لأنَّ الاختلاط لم يكن موضوعاً للتفكير النقدي على المستوى التربويّ أو البيداغوجي. فقد تحقّق بالتدريج، في المدارس الفرنسية، ولأسبابٍ عمليّة (مثل عدد الفصول، شكل القاعات، عدد الطاولات فيها...) أكثر منها أخلاقيّة أو تحرّريّة. ذلك أنَّ المدراءَ والأساتذة، رجالاً ونساءً، لم يفكّروا في ظاهرة "الاختلاط" ولا نظّروا لها بشكلٍ منهجي أو سوسيولوجيّ، بل مارسوها عفويّاً ضمن تطوّراتٍ حصلت تدريجيّاً. ثم جاءت القوانين فأسبغت على الاختلاط طابعاً رسمياً إلزامياً.

تطوّر مفهوم الاختلاط بشكل عفويًّ وعمليّ على مدى عقود

وتُذكِّر الباحثة الفرنسيّة بأنّ الاختلاط لم يَغدُ أمراً شاملاً لمدارس فرنسا كلّها، بقوة القانون، إلّا في سنة 1976، أيْ منذ أربعة عقود فقط، وذلك بعد صراعاتٍ وتردّدٍ ورفضٍ عبّرت عنه بعض القوى المحافظة في المجتمع الفرنسيّ.

أمّا قبلَ ذلك، فقد كان المسار طويلاً: فَبدْءاً من سنة 1920، بُعيْد الحرب العالمية الأولى، صار يُسمح للفتيات بالذهاب إلى قاعات الفتيان ومُخالطتهم، من أجل التحضير لشهادة الثانوية (البكالوريا). ثمّ، في سنة 1926، فُتحت لهنّ أبواب المعاهد، من الفصل السادس إلى النهائي، حتى يشاركن الفتيانَ في التقدم لهذه المناظرة الوطنيّة، التي كانت وما زالت تُعَدّ مفتاح النجاح في الحياة. وبعد الحرب العالمية الثانية، صار التعليم الثانوي شاملاً لكلّ الفئات الاجتماعيّة، بل وإجبارياً حتّى سن السادسة عشرة، للفتيان والفتيات. ثم صدر قانون سنة 1963، ليُجبِر المدارسَ والمعاهد على أن تُبنى على مَبدأ الاختلاط.

يُنصف الكتاب ذوي الأصول العربية من تُهم الإسلاموفوبيا

وتُؤكد الباحثة الفرنسية أنّ نقاشاتٍ حادّة حول هذه الظاهرة اندلعت، وباسم الانحلال الأخلاقي، تناولت المَخاطر التي قد يتسبّب فيها الاختلاط، كما عبّرت فئاتٌ عريضة عن تخوفّها منه، ولا سيما إبّان قانون 1933 الذي يسمح بالاختلاط في التعليم الابتدائي، ذلك أنّ الأوساط الكاثوليكية اعترضت عليه بشدّة، ورأت فيه تهديداً لتقاليدها الألفيّة، التي تفصل بين الجنسيْن، أكانوا من الأطفال أو المراهقين.

وفي خاتمة هذا الكتاب، تُحذّر الباحثة من خطر العودة إلى الوراء، وتقهقر الاختلاط في الأوساط المدرسيّة، وهو ما لاحظته في خطاباتٍ محافظة تتعلّل بأنّ الفتيات سيكنّ على راحتهنّ أكثر، وخصوصاً في مادّة "العلوم الطبيعية" كما سيكون الفتيان أقلّ حرجاً من الفتيات. وهو خطابٌ يناقض ما ذهب إليه دُعاة الاختلاط الأوائل، الذين بيّنوا أنّ من المفيد أن يكون الفصل مختلطاً، لأنَّ الفتيات سيندفعن أكثر أمام الفتيان الذين سيكونون بدورهم أكثر سلميّة في سلوكهم.

ولكنْ، إذا كان الاختلاط في المدارس والجامعات الغربيّة يبدو لنا اليوم بديهيّاً وغير صادم، فإنّه استلزم في الماضي تضحياتٍ جسيمةً، وواجه، إبّان نشأته، اعتراضاتٍ حادّةً، بل حتّى هجماتٍ سافرة، واقتضى استخدام قوّة القانون حتى يستتبَّ أمره. كما أنَّ عمليات المزج بين الجنسَيْن، التي سمحت بها الدولة والكنيسة، نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن لها مِن هَدف سوى تنشئة ربّات بيوتٍ صالحاتٍ وأمّهاتٍ مطيعاتٍ.

كتاب الاختلاط

وكان على الفتيات انتظار القانون تلو الآخر حتى تستقرّ قاعدة الاختلاط هذه وتعمّ مدارس الجمهورية الفرنسية ومعاهدها، منذ عقود قصيرة جداً. ولهذا، قامت الباحثة الفرنسية جنفييف بيزو بإعادة رسم تاريخ الاختلاط ومراحل تثبُّته من خلال العودة إلى أرشيفاتٍ بِكر وشهاداتٍ جديدة، بَطلاتها نساءٌ جاهَدن، في صمتٍ، لتحقيق المساواة بين الجنسَيْن.

وأمّا الدرس المعرفي الذي يُستفاد، عَربياً، من هذا الكتاب، فهو ضرورة إدراك أنّ التحوّلات الاجتماعيّة لا تحصل طفرةً واحدةً، وإنّما هي سليلَة حركةٍ بطيئةٍ عميقة، تَنتُج بصَمتٍ، في أعماق التحوّلات الاجتماعيّة الطبيعيّة، عندما تصير هي ذاتُها مَطلباً يتوق إليه أفراد المجتمع، مثل الاختلاط في حالتنا هذه. وكلُّ مَن يحاول إسقاط نماذج جاهزة، مقتَبَسة من الخارج، وناجمة عن مساراتٍ طويلة، إنّما يسيء إلى تلك النماذج، كما لمجتمعه. وهذا ما يفعله مناصرو الحداثات الجاهزة ومشاريع التغريب السريعة، الذين ينادون بِفَرض قِيَم غريبّة وإسقاطها على مجتمعات ليست جاهزة لقبولها، مثل تقنين المخدّرات، والمشاهد الفاضحة وحتى طرائق اللباس وغيرها... فكلُّها لم تصبح، في الغرب "قانوناً" إلّا بعد نضالٍ طويلٍ، اختاره البعض من فئاته، ولا مجال لفرضها على الجميع دون تهيئة ذهنيّة.

وأمّا الدرس الثاني، فهو بُطْء التحوّلات المجتمعيّة وتعثرها، ومصاحبتها بخطاباتٍ نظريّة واعتراضاتٍ وقوانين. فالاختلاط بين الجنسَيْن مثلاً، والذي يُقَدّم الآن، في المحافل الرسميّة وفي الهيئات الأممية، على أنّه قيمة "كونيّة"، إنّما هو وليدُ مساراتٍ طويلة اعترتْها قطائع وارتدادات، واقتضت تدخّلاتٍ من أجهزة الدولة، وتفاوضاً مع القوى الاجتماعيّة. ولذلك، لا داعيَ لفَرضه حلًّا ناجزًا وقيمة مُطلقة، ما لم تنادِ به الجماعات المتضرّرة من غيابه. كما أنَّ فائدة بعض "القِيَم" في مجتمعاتها الأصلية لا تعني أنّها صالحة لكلّ المجتمعات الأخرى، ذات الخصوصيات والتواريخ المختلفة، والتي لا يمكن استنساخ تجاربها آلياً.

أمّا الكاتبة جنفييف بيزو، فهي من مواليد 1964. حازت على شهادة التبريز في علم التاريخ وعلى الدكتوراه في علوم التربية. تدور أطروحتها حول تاريخ تربية البنات في فرنسا والعوامل التي أسهمت في بناء الاختلاط كمفهومٍ اجتماعيّ داخل الثانويات. وهي تعمل الآن في مجال التدريب والتوعية، لا سيما بالفوارق بين الفتيات والفتيان. نشرت جملةً من المقالات في هذا المجال، من بينها كتاب "تربية البنات" (2011).


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون