العنوان لافت: "الرابع من آب 2020". لم يُسجِّل الشاعر اللبناني عقل العويط (1952) هذا التاريخ في عنوان الديوان، ولم يعُد إليه عفواً في الصفحة الأُولى من الديوان الذي يمتد على 71 صفحة تحوي مقطّعات منفصلة لكنها مع ذلك لا تحمل عناوين، كأنها جميعها ترتدّ إلى العنوان نفسه. نعرف أنَّ التاريخ الذي حمله العنوان هو تاريخ انفجار مرفأ بيروت الذي دوّى في ذات الوقت. أن لا تحمل مقطّعات الديوان عناوين إلماح إلى أنها جميعها تندمج في نصّ واحد، وإننا لذلك أمام مطوّلة شعرية أو قصيدة واحدة هي صدىً ونشيد لانفجار المرفأ. أي أنّنا ثانية أمام فنّ ما بعد المرفأ، شعر ما بعد المرفأ.
"الثلاثاء الرابع من آب الساعة السادسة وسبع دقائق". هكذا تبدأ قصيدة العويط الأولى وستكرّر التاريخ مرّات في النص.
"كيف أصفُكِ
يا بيروت
قبل الساعة السادسة وسبع دقائق
كيف أصفُكِ
بعد الساعة السادسة وسبع دقائق".
وإذا كانت مطوّلة العويط، ولنسمِّها بتصرُّفٍ ملحمته، تبدأ من هذا التاريخ، فإنّها تقف عنده بشتى المقاربات وشتى الأساليب. إنّها ذلك الدفق الذي استثاره الانفجار، دفق ينهمر أحياناً غضباً ولعنات ومراثي سوداء، كما يصفو أحياناً أُخرى ويسترخي في ما يشبه الفكرة والحكمة، أو يلتفّ على الموضوع بإشارات وكنايات سياسية، هي أيضاً ازدراء وغيظ وسخرية مُرّة. في كلّ ذلك يترامى من البعيد والقريب نشيد توراتيّ وعنف نبوي، يستدعي من بعيد حزقيال وأرميا وأشعيا.
"لتشربي غبار الهواء أحقاد الركام غفيرة وصراخ استغاثتك الملجوم يصل إلى مسامع الكل ولا يصل إلى مسامع أحد. إياك أن تستسلمي. ستعثر نظراتك الأخيرة على طريقة لإرجاء الزفرة المميتة واجتراح ضحكة المستحيل".
مطوّلة شعرية أو قصيدة واحدة هي صدىً لانفجار المرفأ
يمكننا أن ننفذ من الغضب إلى عدمية وإلى ميتافيزيق أسود "ليدجّن هذا العدم" كما يمكننا أن نعثر على محطّات تقترب من مباشرة سياسة على حافة المحكي.
"النسيم الجريح... لا يقول إلّا صباح الخير، ثم يكمل طريقه مسلّماً بالطريقة ذاتها على العابرين والحالمين والموتى والمفقودين، والجيران المكسور خاطرهم للأسباب المعروفة".
نصل أحياناً إلى ما يشبه التحريض السياسي وما يفيض بدعاوى صارخة.
"ستدفنينهم واحداً واحداً، بالطريقة التي ترينها مناسبة، لن أقول رمياً بالرصاص ولا تعليقاً على أعواد المشانق، ولا جلوساً فوق كراسي الكهرباء، ولا طمراً في الغياهب، سيترك التدبير لكِ كلّه لأنّه كلّه لكِ، يا سيدة حرّة".
نحن أمام ما يشبه أن يكون مراثي عقل العويط، إذا تذكّرنا مراثي أرميا مراثي لا تقف فقط عند لغة صارخة غاضبة محرِّضة، لكنّها تنفذ إلى التماعات تندغم فيها الصور بالأفكار وبالغناء.
"من يكسر من،
الأصل أم الظل،
الشاعر أم القصيدة".
هكذا نجد أنفسنا أمام نص لا يتنكب عن شيء، المراثي والغضب التوراتي، النشيد مع الدعاوى والتحري مع السرد والتعليق الصحافي، مع الغناء الخافت. إنّنا أمام شعر ما بعد الانفجار حيث لا تنفصل السياسة عن الإنشاد، حيث لا ينفصل التعليق الصحافي عن المرثية، حيث يتواقت الغضب واللعنة والصراخ مع الغناء والحكمة في أحيان. شعر ما بعد الانفجار، كما يقتضيه الانفجار نفسه، يغلي العنف لكنّه أيضاً يجد الطريق إلى الحكمة. هكذا نصل إلى شعر يذكّرنا مِن بعيد بـ"البِيت" الأميركيّين، نصل إلى شعر يشبه فن الكولاج، يلصق التعليق على الغناء والعادي على الغرائبي. ليس ديوان عقل العويط المثل الوحيد لهذا الشعر، لا بدّ أنّ هناك أمثلة أُخرى، لا بدّ أنّ هناك أكثر من قصيدة بأكثر من طريقة.
* شاعر وروائي من لبنان