ليس العثور على معلوماتٍ دقيقة عن الشخصيات الثقافية والفكرية في الجزائر أمراً يسيراً؛ فبينما تُولي كتاباتُ الباحثين والمؤرّخين اهتماماً بالشخصيات الثورية والسياسية، قليلاً ما يجري الالتفات إلى توثيق سيَر الكتّاب والمفكّرين والفنّانين، وهو ما يجعلُ المتوفّر عنها شذرات متفرّقة في بطون الكتب، أو مجتمعةً - بشكل غير دقيق في كثير من الأحيان - في مواقع الإنترنت.
هذه الفجوةُ هي ما يُحاول مشروعٌ أطلقته "دار الوطن اليوم" التي يديرها الكاتب والناشر كمال قرور باسم "أعلام الفكر"؛ وهي سلسلة كُتب شرعت في نشرها مطلع العالم الجاري لتُضيء على شخصيات فكرية جزائرية لا يزال بعضُها مجهولاً للكثيرين، قبل أن تُغيّر اسمها إلى "أعلام الجزائر"، لتنفتح بذلك على مجالات أُخرى غير الفكر.
يتحدّث قرور إلى "العربي الجديد" عن فكرة السلسلة، قائلاً إنّها أتت من اهتمام "دار الوطن اليوم" بالثقافة الجزائرية التي "تَميّز كثيرٌ مِن أسمائها، وترك بصمته في المحيط المحلّي أو العربي أو الإنساني، لكنّ غالبيّتها ظلّت مجهولةً ومغيَّبة، حتّى أنّ الطلّاب يتخرّجون من المدارس والمعاهد والجامعات وهُم يجهلون أعلامنا في المجال الثقافي، فيشعرون بنُقص تجاه أعلام الشرق والغرب".
شخصيات فكرية جزائرية لا يزال بعضُها مجهولاً
يَعتبر صاحب رواية "الترّاس" (2007) ذلك تقصيراً يتحمّل مسؤوليتَه المثقّفون والمنظومتان التربوية والثقافية، مضيفاً: "كان علينا أن نُبادر، بإمكاناتنا المتواضعة، لإضاءة بعض تلك الشخصيات، اعترافاً برموزنا الثقافية والفكرية، وتصالُحاً مع ذاتنا، حتى نتجاوز الحالة المرَضية التي تنفي كلَّ ما هو محلّي، أو تحتقره وتسخر منه".
يعترف قرور بأنّ المشروع عرف بعض العثرات في بدايته، قبل أنْ يأخذ مساره الحالي، مُرجعاً الفضل في ذلك إلى الباحثين والأكاديميّين الذين آمنوا بالفكرة، ومن بينهم فارح مسرحي، أحد المشتغلين في الحقل الفلسفي في الجزائر، والذي شارك في إعداد ثلاثة كُتب مِن السلسلة، وأشرف على إنجاز الكتب الأُخرى، وليلى بن عائشة التي تشتغل مع فريق من الباحثين في المسرح على مجموعة من الشخصيات المسرحية.
من العقبات التي يذكُرها المتحدّث صعوبةُ الاستكتاب للمشروع بسبب التجاوب السلبيّ مِن الكتّاب؛ ففي البداية "وضَعنا قائمةً تتضمّن أسماء معينة، لكنّنا لم نستطع التقدُّم خطوةً واحدة، وقد كان ذلك مُثبطاً. لكنّنا تجاوَزنا هذه العقبة حين ترَكنا لكلّ باحث أن يختار الشخصية الجزائرية القريبة من اهتمامه أو سبق له الاشتغال عليها ضمن بحث أكاديمي، شريطةَ أن يُقدّمها وفق الخطّة المقترَحة؛ وهي أن تتّجه الكتابات إلى القارئ غير المتخصّص".
هنا، يلفت قرور إلى أنّ التوجُّه إلى الجمهور غير المتخصّص لا يعني عدم الالتزام بمجموعة من المعايير الدقيقة؛ والتي تتمثّل في تقديم سيرة الشخصية وأفكارها، وأبرز ما قيل وكُتب عنها، بالإضافة إلى مقتطفات من كتاباتها، مع الإحالة إلى المصادر والمراجع والالتزام بعددٍ مُعيَّن من الكلمات يسمح بإصدار كُتب السلسلة بشكل موحَّد من حيث الحجم ومتقارب من حيث الصفحات، ومِن ثمّ تسويقها بسعر موحَّد.
مرآةً تعكس الثقافة الجزائرية بتنوُّعها واختلافها
لكن ما هي المعايير التي جرى اعتمادُها في اختيار الشخصيات التي تُضيئها السلسلة؟ يُجيب قرور: "تهدف السلسة، أساساً، إلى التعريف بأعلامنا في مجالات المعرفة المختلفة، منذ القدم وإلى اليوم. نحن ضد الإقصاء ولا نحكم على أيّ مِن هذه الشخصيات بسبب توجُّهاتها الأيديولوجية أو قناعاتها أو مواقفها. لذلك، نأمل أن تكون السلسلة مرآةً تعكس، بشكل صادق، الثقافة الجزائرية بتنوُّعها واختلافها".
حتى الآن، صدر ضمن السلسة 12 كتاباً يُعرّف باثني عشر مفكّراً جزائرياً؛ هُم: مولود قاسم نايت بلقاسم، ومحمد أركون، وعبد الرحمن بوقاف، وحمودة بن ساعي، وملك بن نبي، وكريبع النبهاني، وأبو عمران الشيخ، والبخاري حمانة، ومصطفى الأشرف، ومحمد بن أبي شنب، ومحمد بن بريكة (جميعُهم راحلون)، إضافةً إلى الزواوي بغّورة. ويُنتظَر أن تصدُر قريباً كُتب أُخرى تتناول شخصيات أُخرى؛ مثل: الأمير عبد القادر، وبختي بن عودة، عبد المجيد مزيان، ومحمد الصالح يحياوي، والمهدي البوعبدلي، محمود بوزوز، وعبد القادر بوعرفة، وخليفة بن عمارة، ومحمد تازروت، وعلي مراد، والسعيد بوطاجين، وسليمان جوّادي.
يلفت صاحب رواية "حضرة الجنرال" (2015) إلى أنّ السلسلة لا تقتصر على الشخصيات الراحلة: "هناك الكثير من الأسماء الموجودة بيننا التي تستحقّ أن تكون ضمن السلسلة، وهؤلاء نطلب منهم أن يقترحوا لنا كتّاباً يستطيعون الكتابة عنهم بشكل جيّد، كما نستعين بهم لتزويدنا بشخصيات نضمّها إلى السلسلة".
يقول قرور: "ما يُشجّعنا على مواصلة المشروع، ويُشعرنا بمسؤولية أكبر، هو أنّ هناك أكثر من مئة باحث يشتغلون على قرابة 140 شخصية جزائرية معروفة وغير معروفة، وأنّ المخطوطات تصلنا تباعاً للقراءة والمراجعة وإبداء الملاحظات، قبل أن تذهب إلى الطبع لاحقاً".
في ختام لقائنا به، سألت "العربي الجديد" كمال قرور عمّ إذا كان يُفكّر في إصدار سلاسل جديدة في مجالات أُخرى غير الفكر والثقافة، فأجاب بأنّ السلسة باتت تصدُر حالياً تحت عنوان "أعلام الجزائر"؛ وهو ما يعني، حسب تعبيره، انفتاحها على كلّ الحساسيات والاتجاهات، وعلى جميع حقول المعرفة: الأدب واللغة واللسانيات والفقه والمسرح والموسيقى والرسم والسينما والعلوم الاجتماعية وغيرها، مُضيفاً: "ما نسعى إليه هو تأسيس بنك للشخصيات الجزائرية - الثقافية والتاريخية والثورية - المعروفة والمجهولة، والتي قدّمت فكرها أو عرقها أو دمها لهذا الوطن، وهو مشروعٌ يتطلّب إيماناً مِن الباحثين بأهميته لإنجاحه".
من بين الشخصيات التي يجري الاشتغال عليها حالياً، لتصدر ضمن السلسلة، يذكُر قرور: عبد الله شريط، وأبو العيد دودو، والربيع ميمون، وعمار طالبي، وعبد الرحمن الأخضري، وعلي الكنز، وأبو القاسم سعد الله، وحمدان خوجة، وأحمد حمّاني، وأحمد توفيق المدني، وعبد الرحمن حاج صالح، وإسماعيل العربي، وعدّي الهواري، ورابح بلعيد، وسي محند أُومحند، وعمر بن قدّور، ومحيي الدين باشطارزي، ومحمّد بودية، وعبد الرحمن عزّي، ومصطفى كاتب، وكاتب ياسين، ومحمد ديب، ومولود فرعون، والجيلالي اليابس، والطاهر آيت علجت، ومحمد حربي، والطاهر وطار، وسليمان مظهر، وعبد الرحمن فارس، وحنفي بن عيسى، ولوكيوس أبوليوس، ودوناتوس، والقدّيس أوغسطين.