لقاء مكّي.. استعادة الزمن العراقي الممتدّ

19 مارس 2019
(عامل بناء يزيل حطام مبنى في بغداد، 2003)
+ الخط -

بعد أكثر من خمسة عشر عاماً على غزو العراق واحتلاله من قبل الولايات المتّحدة، لا تزال غيوم تلك الفترة السوداء تُخيّم، ليس على العراق وحده، وإنما على المنطقة العربية والإقليمية والدولية. وما حدث مع بغداد، التي كانت من أهم مراكز القرار العربي طيلة عقود، لا يزال بحاجة إلى مزيد من القراءة، على الأقل لتوفير مساحة وافية لمن يرغب في دراسة متبصّرة لمرحلة يبدو أن تراكماتها ستبقى حاكمةً على الكثير من مفاصل عالم اليوم، وربما حتى المستقبل القريب.

"سنوات عاصفة... قراءة جديدة في احتلال العراق" هو من أحدث الإصدارات في هذا المجال. الكتاب الذي ألّفه الباحث في "مركز الجزيرة للدراسات"، لقاء مكّي، صدر مؤخّراً عن "منتدى العلاقات العربية والدولية".

أتاحت الوثائق التي نُشرت عن احتلال العراق الكثير للباحث ليقف على حقيقة ما جرى. وإضافةً إلى ذلك، تضمّن الكتاب شهادات للعديد من الشخصيّات التي لا تزال على قيد الحياة، وقد صدر بعد أن تغيّرت أمور كثيرة في العراق وخارجه؛ فأميركا التي ساقت الأكاذيب لغزوه، بدأت تستشعر خطيئة ما ارتكبت، وحتى الأنظمة العربية التي ساندتها لتغيير نظامه، اتّضح لها أن النظام البعثي السابق استُبدل بنظام أكثر عداوة لها، في ظلّ السيطرة الإيرانية على حكومة بغداد.

قسّم الباحث كتابه إلى ثلاثة فصول، إضافة إلى المقدّمة الطويلة نسبياً، والتي استهلّها بالتأكيد على أن ملفّ العراق لم يُغلَق بعد، رغم مرور أكثر من عقد ونصف على الغزو الأميركي.

ولأن فهم الحاضر يحتاج دراسة معمّقة لما سبقه، كان لا بد من الفصل الأول الذي حمل عنوان "العراق في الهدف"، وفيه يشير مكّي إلى أن قرار غزو العراق، وإن اتُّخذ بعد هجمات سبتمبر/أيلول 2001، إلّا أنَّ هواجس الغزو والتحريض عليه سبقت تلك الهجمات بسنوات. وهنا يطرح سؤالاً جوهرياً: هل كان غزو العراق للكويت في أغسطس/آب 1990 مقدّمة واقعية لتوفير أسسٍ لغزو العراق؟

يجيب المؤلّف عن سؤاله بالإيجاب، معتبراً أن العراق من بين الدول التي كانت في دائرة الاستهداف الأميركي منذ أن خرج من حربه مع إيران بمليون جندي وترسانة قوية ونفوذ إقليمي في منطقة نفوذ أميركي. وما بين غزو الكويت والغزو الأميركي، جرت مياه كثيرة، كان بعضها قادراً على إثارة تساؤلات لا تزال مطروحةً إلى اليوم، وربما بلا أجوبة. لا يزعم المؤلّف تقديم أجوبة لتلك الأسئلة، إنما يعرضها كجزء من حقبة تحتاج إلى بحثٍ متواصل للوقوف على حقائقها.

يتوقّف الكاتب في الفصل الثاني، "ربيع صاخب... أميركا تغزو العراق"، عند ما يُسمّيه "مشاهد ليست عابرة"؛ حيث يسرد مشاهد تُلخّص المشهد العراقي منذ الغزو وإلى اليوم، ولعلّ أبرزها الطبقة السياسية الجديدة التي فُرضت على العراقيّين، وطغيان الدين والطائفة والقبيلة بعد انهيار مفهوم الدولة.

ولأن المقاومة فرضت نفسها بقوّة بعد 2003، وكانت رقماً فاعلاً طيلة سنوات، كان لا بد من فصلٍ ثالث عنها وعن أبرز ما حقّقته، وأيضاً عن أهم الأسباب التي أدّت إلى عدم تمكّنها من تحقيق أهدافها كاملة. بحسب المؤلّف، فإنه ورغم قلة الإمكانيات وغياب الدعم، نجحت المقاومة العراقية، التي يعتبرها أسرع حركة مقاومة في التاريخ، في إيصال القوّات الغازية إلى حافة الهزيمة.

لكن تفجير مرقد الإمامَين علي الهادي والحسن العسكري في فبراير/شباط 2006 أذن بدخول العراق مرحلة جديدة أطلق عليها المؤلّف مرحلة الصراع الأهلي. هنا وجدت المقاومة نفسها وسط تقاطع النيران، بعد أن تحوّلت إلى هدف للمليشيات الشيعية إلى جانب قوّات الاحتلال الأميركي.

يواصل الكاتب سرد تفاصيل ما جرى في عراق ما بعد 2006، بداية ببروز "القاعدة" كتنظيم مسلّح قوي، مروراً بظهور "الصحوات" كردة فعل على جرائمه، ووصولاً إلى إعلان "القاعدة" عن تحوّله إلى ما يُسمّى "تنظيم دولة العراق الإسلامية" قبل أن يتحوّل إلى تنظيم "دولة العراق والشام" بعد اندلاع الثورة في سورية؛ حيث وجد هناك أرضاً خصبة للتمدُّد وتنفيذ مخطّطاته.

ورغم أن احتلال الموصل من قبل ما يُسمّى "الدولة الإسلامية" وقع في يونيو/حزيران 2016، ورغم مضيّ نحو عامين على استعادة المدينة، إلا أن الأسئلة ما زالت تتقاطر حول تلك الحادثة وما وقع قبلها وأثناءها، وخصوصاً أن كل ما تمخض من تحقيقات أرجع الأمر إلى سوء التخطيط وعدم كفاية المعلومات الاستخباراتية، بينما يُشير المؤلّف إلى ما هو أبعد من ذلك.

يُضاف "سنوات عاصفة... قراءة جديدة في احتلال العراق" إلى كثير ممّا كُتب عن عراق ما قبل 2003 وما بعده. لكن، ورغم ما بذله المؤلف من جهد، فإن احتلال العراق يبقى ساحة خصبة للبحث والاستقصاء لتبديد الغموض الذي لا يزال يلفّ تلك المرحلة، وسيبقى بحاجة إلى جهود بحثية أخرى للوصول إلى حقائق، ربما سيبقى الكثير منها قيد الكتمان والسرية، حفاظاً على مصالح القوى الفاعلة والمؤثّرة.

دلالات
المساهمون