صدر قديماً: "في الشعر الجاهلي" لـ طه حسين

22 ابريل 2017
طه حسين (1889 - 1973)
+ الخط -
كانت إحدى أكبر المعارك الفكرية في الربع الأول من القرن العشرين، تلك التي خاضها طه حسين (1889-1973) في كتابه: "في الشعر الجاهلي"، الصادر سنة 1926. ولقد أثار من الردود ما جعل صاحبه يُرمى بالكفر والتجديف، ويُجبر بقرار قضائي على حذف فقرات كاملة من الكتاب، ويُفصل من الجامعة كرئيس لكلية الآداب سنة 1932. فما هي العناصر التي صدمت قرَّاء عصره آنذاك؟ وما سبب هذه الهجمات العنيفة التي تعرض لها الكتاب ومُؤلِّفه؟

أطروحة البحث المركزية، ولم يتعود مثلها قارئ العشرينيات، هي التشكيك في تاريخية الجزء الأكبر من الشعر الجاهلي، واعتباره مجرّد اختلاقٍ، وَضَعَه الرواة في القرنَيْن السابع والثامن، وأضافوه، كذبًا، إلى شعراء الجاهلية، مع أنَّه يصور حياة الأمويين وصدرًا من الدولة العباسية أكثر من تصويره حياةَ عرب الجاهلية قبل الإسلام.

وكانت كلمات التصدير قاطعةً صارخة، صمَّت آذان معاصريه من علماء اللغة ونقَدَة الآدب: "شَككتُ في قيمة الأدب الجاهلي، وألححتُ في الشَكِّ. وانتهيت إلى أنَّ الكثرةَ المطلقة مما نسمِّيهِ أدباً جاهلياً، ليست من الجاهلية في شَيءٍ، إنما هي مَنحولَةٌ بعد ظهور الإسلام. فهي إسلامية تمثّل حياة المسلمين وميولَهم وأهواءهم، أكثر مما تمثّل حياة الجاهليين. وما بقيَ من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جداً، لا يمثّل شيئًا، ولا يدلُّ على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي".

يمسُّ هذا الطرح المدوي صميم إعجاز القرآن، وهو الذي تحدّى العالمين أن يأتوا بمثله، ويشكِّك في مرجعية المفسرين الذين اعتمدوا شعر الجاهلية لشرح مفرداته وبيان تعاليه، ويعتبرها من أراجيف القُصّاص وأباطيل الشعوبية.

ومن جهة ثانية، صدمت هذه الأطروحة بضربها مكوّناً رئيساً في هوية العرب الثقافية، وهي القائمة على شعر الأقدمين، عُنوان أمجادهم، "وديوان أيامهم وفضائلهم". اعتُبرَ كلام طه حسين طعنًا في عتاقة البعد الجمالي للهوية وفي أصل شرعيته، وأدينت تحاليله لازدرائها التاريخ العربي، وقراءتها أحداثه بانحيازٍ، عبر التطبيق المتهور لمذهب ديكارت الرَّيْبي في تحقيق التاريخ، والتهور أن تنفيَ كلِّ شيء حتى يقوم الدليل على ثباته، وإخضاع مقدسات الإسلام (مثل السيرة النبوية، وعقائد الفرق، ومعارف اللغة، وأنساب العرب...) إلى برودة منهج الشك، وإطراح ما تواطأ عليه العلماء منذ قرون.

أكد "عميد الأدب العربي" أن أغلب دوافع انتحال الشعر دينية وسياسية، ولذلك استعاد الفتنة الكبرى وانقسام المسلمين إلى مهاجرين وأنصار، وانتماءهم إلى قريش وإلى آخرين، ثم تصدّعهم إلى فِرق وأحزابٍ، تتغذّى بالعصبية القبلية، وتسعى إلى شرعية لا يضفيها إلا الشعراء، كما أبانَ بالأمثلة القاطعة مساهمة القُصَّاص وعلماء اللغة والشعوبيين في فشوّ ظاهرة التمحّل ونسبة الشعر إلى رموز الجاهلية، وحتى إلى الأنبياء والملائكة والجنّ.

وهكذا، فالقراءة السياسية للتراث الأدبي وتأكيد الدور السلبي للفتن الدينية هي أكثر ما أزعج معاصري طه حسين، لأنَّها تنزع القداسة عن الماضي، وتعلل وقائعه بالمنافع السياسية وليس بالتقوى، كما تؤكد أنَّ اللغة العربية ليست متعالية في ذاتها، وأنَّها، والقرآنَ، لا يُفهمان خارج سياق النصوص الدينية السابقة، كفصول التوراة والإنجيل، ولا بمعزلٍ عن اللغات السامية المجاورة، فضلاً عن الإغريقية والفارسية ... وهكذا فتح الناقد المصري الباب مُشرعاً على تاريخانية اللغة ونسبية الأدب والعقائد، عبر التحقيق الصارم، الذي يزيل عن الماضي عصمته.

عُودِي الكتابُ وصاحبه، وانبرى علماء الأمة "ينقضون" هذه الأطروحات الجريئة، وكانت ردودهم انفعالية عنيفة، تتوجّه إلى أسلوب البحث العقلي، وآثاره السياسية والاجتماعية، أكثر من توجهها إلى الفرضيات اللغوية أو التاريخية التي نافحَ عنها، ومن أشهر الناقضين: مصطفى صادق الرافعي، في "تحت راية القرآن"، وشيخ الأزهر محمد الخضر الحسين، في "نقض كتاب: الشعر الجاهلي"، والموسوعي محمد فريد وجدي في ردٍّ آخر يحمل نفس العنوان "نقض الشعر الجاهلي".

ولكن، وبعد مضي ما يقارب القرن على صدور هذا الكتاب وردوده، وتجاوز جلّ المعلومات الواردة فيه، تظلّ الروح النقدية في استعادة التاريخ وكشف رهاناته الرمزية، أهمَّ ما يبقى منه، وهي أيضاً أهم متطلبات مرحلتنا الراهنة، مما يضفي على الأثر فرادة الإلحاح على ضرورة النقد العلمي للتراث وقراءته بمكتسبات المناهج والنتائج الحديثة، مع تجرّد الباحث كليًّا من العواطف، مهما كانت قداسة المدوّنة المدروسة، ونشر النتائج، أياً كانت آثارها على التصورات الجمعيَّة.

دلالات
المساهمون