جاء إعلان عالم الوراثة ومدير مشروع الجينوم البشريّ في أميركا جيمس واتسون (1928) "كنّا نعتقد أن مصيرنا مكتوب في النجوم، ونحن نعلم الآن أنه مكتوب في جيناتنا" كخلاصة لمفهوم "الحتمية الوراثية" حيث السلوك والصفات والمعرفة في الكائن الحيّ تحدّدها الجينات التي يحملها الكائن.
إلّا أن فريقاً من واحد وعشرين مختصّاً في حقول علمية مختلفة، يساجل للدفع بحُججٍ مُضادّة لما قالوا إنها "ادعاءات مبالغ فيها وخاطئة"، حول هذا الدور الذي تؤدّيه الجينات في التطوّر والسلوك البشريّين، إضافة إلى دورها في الثقافة، وكان مضمار هذه المساهمات في عمل حرّره شيلدون كريمسكي وجيرمي غروبر صدر بترجمة عربية في العدد الأخير من سلسلة "عالم المعرفة" أنجزتها ليلى موسوي تحت عنوان "تفسيرات وراثية: المعقول واللامعقول".
بعد تفصيلات في علم الوراثة منذ تجارب النمساوي غريغور مندل (1822-1884) على النبات، وشروحات عن تركيب الخلايا والجينات والحمض النووي وعلاقة نظرية الانتخاب الطبيعي لـ تشارلز داروين، أنجزها أستاذ بيولوجيا الخليّة في كلية نيويورك الطبية ستيوارت نيومان، وغيرها في جزأي الكتاب الأول والثاني؛ نجد فهماً جديداً لعلم الوراثة والوراثة الطبيّة.
يأتي الجزء الثالث، "علم الوراثة في السلوك والثقافة الإنسانييّن"، لمناقشة "التأثير المستمر للأفكار العلميّة الفاشلة" وذاك عنوان المساهمة الأولى للأستاذ في كليّة الطب في جامعة هارفرد، جوناثان بيكوث التي يكشف فيها كيفية التعامل مع نتائج أوليّة لبعض الأبحاث في علم الوراثة السلوكية كحقائق علمية، مثل دراسة الطبيب النفسي هنري هربرت غودارد في كتابه "أسرة كالياك: دراسة في وراثة العته" (1912) وتبنّي مُنظري حركة تحسين النسل eugenics لها، رغم أن دراسة غودارد كانت "معيبة على نحو خطير" حتى أنه وبحلول العام 1940 اعتبر علماء النفس أن هذه الدراسة "رُفضت باستهزاء من علم النفس على أنها مجرد سخافة"، إلّا أن أسطورة كالياك احتفظت بقبضتها على مخيّلة العامة.
ينتقل بيكوث إلى كشف آثار دراسة مجموعة باحثين بقيادة عالمة الوراثة باتريشيا جاكوبس، تتعلّق بإمكان وجود صلة وراثية بين السلوك الإجرامي والعدوانيّ والجينات.
الدراسة التي تراجعت جاكوبس عنها في وقت لاحق ساهمت مع دراسات أخرى في إثارة الجدل حول العلاقة بين المسؤولية الجنائية وعلم الوراثة، ودفعت قُضاة في أحد المؤتمرات لتوجيه أسئلة إلى علماء الوراثة فيما إذا كان المجرمون ليس لديهم إرادة حرّة. نهاية المطاف تراجع مدير مشروع آخر بهذا الخصوص وهو هانز برونر بإعلانه أن "فكرة وجود جين العدوان قول لا معنى له".
ومثلها دراسة نشرت في مجلة "ساينس" عن أفضليّة للذكور على الإناث في مجال تعلّم الرياضيات لباحثين في جامعة جونز هوبكنز، خلصت إلى أن هذه الأفضلية بيولوجية رغم الدراسات اللاحقة التي أرجعت هذه الأفضلية لعوامل اجتماعية، وتنتهي هذه المساهمة في عرض كيف كانت الدراسات الوراثية تسيّر الآراء حول تباين التقدّم الثقافيّ بين الشعوب، ولم يكن ذلك في الحقيقة إلا بتضليل حول جينات الذكاء روّج له الإنثربولوجي من جامعة ويسكونسن، جون هوكس.
كان ذلك بافتراض الأخطاء والمغالطات في أبحاث علم الجينات والوراثة، أما عن القصديّة في الخروج بنتائج من هذه الأبحاث فكان مجال مساهمة المؤرخة في جامعة بنسلفانيا سوزان ليندي، مستعينةً بمصطلح هول وغارتر "اقتصاديات التنجيم الوراثيّ" لشرح دور الأسواق البيولوجية الجديدة في جذبها اهتماماً علمياً شديداً عن طريق شركات الجينوم الشخصية التي تقدّم للمستهلك اختبارات على جيناته لقاء مبلغ لا يتجاوز 400 دولار، بالإضافة إلى شركات اختبار الأنساب، حيث تعدل سوزان ليندي مقولة عالم الأحياء التطوريّة الروسي ثيودوسيوس من أن "لا شيء في علم الأحياء له أي معنى منطقي إلّا في ضوء التطوّر" إلى "لا شيء في علم الأحياء له أي معنى منطقي إلّا في ضوء السوق".
"العرق ما يزال مربحاً" خلاصة ليندي في دور هذه الشركات التي توظف هواة علم الأنساب الجينيّ الذين يبيعون نتائج تتعلق بأصول بعض الجماعات مثل الأميركيين من أصل أفريقي، أو ما يسمّيهم واريك وولف "مجموعات من دون تاريخ" في إشارة إلى تجارة الرقيق عبر الأطلسي.
وفي مساهمتها "توليد طفل أفضل"، تناقش شيرلي شاليف من كلية هارفرد للصحة العامة مسوحاً أجريت على عيادات تكنولوجيا المساعدة على الإنجاب في أميركا، خلصت إلى أن 42% من المراجعين لهذه العيادات كانوا يراجعون بلا أي داع طبيّ.
كل ذلك تناقشه من وجهة نظر أخلاقيّة تجاه اختيار جنس المولود، خاصة في ما يتعلق بتوظيف التكنولوجيا الإنجابيّة في بعض البلدان كالهند والصين، حيث كانت التفضيلات للذكور، والذي قد يؤدي إلى نتائج ديموغرافية حادة تعيد قضية وأد الإناث عبر هذه التكنولوجيا، بالإضافة إلى مناقشتها ترويج وجود جينات للخيانة، ودور ذلك في العلاقات الإنسانيّة، خصوصاً في ما يتعلق بالإعفاء من المسؤولية، وتسليع الصفات الوراثية وتأسيس الهويّة.
من داخل مختبرات الأدلة الجنائيّة تأتي مداخلة أستاذ علم الجريمة والقانون في جامعة كاليفورنيا، في مقاله "دليل الحمض النووي DNA في الأدلة الجنائيّة: أسطورة العصمة"، حيث ينزع ويليام تومسون الاعتقاد بعصمة اختبار الحمض النووي في القضايا الجنائيّة، حيث "الأخطاء في اختبار الحمض النووي تحدث بانتظام".
وتضرب عالمة الوراثة، ماي وان هو، ضربتها الأخيرة في "أن لا سيادة للحتمية الوراثيّة ولا البيئيّة"، مرتكزة في ذلك على الاكتشافات في الوراثة فوق الجينية "علم التخلّق"، ومستعينة هنا بأفكار روث هوبارد أستاذة علم الأحياء في جامعة هارفارد، وداعمة لفكرتها من أن هناك محدّدات اجتماعية لما يكون الأفراد عليه، حيث تعتقد أن هذه المحدّدات أقوى بكثير من علم الأحياء والجينات.
تكمل وان هو، "إن علماء الاجتماع فشلوا في فهم القضايا الحقيقيّة" في هذا المضمار، بالإضافة إلى ممارسة من تسميهم علماء أخلاقيات البيولوجيا التشويش، وترك الجمهور تحت رحمة الدعاية الماكرة، حيث يتم إنتاج المعلومات الوراثيّة، ويتم التلاعب بها من قبل علماء وأطباء وأرباب عمل وشركات تأمين ومعلمين ومنفّذي قانون.
الوعد غير المنجز لعلم الجينوميّات، يختم فيه المحامي ورئيس مجلس العلوم الجينية جيرمي غروبر، هذه المساهمات بقوله إن فجوةً كبيرةً بين الأبحاث الأساسية والتطبيقات السريريّة مملوءة بالمبالغة والغلو والاحتيال الصريح، وصلت حدَّ الاستيلاء على خيال الجمهور عن طريق الربط بين الجينات وبكل ما يدور من حولنا، شارك في كل ذلك وسائل الإعلام ومجموعات صناعيّة وحكومية وجماعات المصالح.