التغريبة الفلسطينية... حكاية شعب لم يستسلم

05 يناير 2021
+ الخط -

أنتجَت الشاشات التلفزيونية كثيرًا من المسلسلات المهمّة، وحصل كلّ منها على نصيبه من النقد الإيجابي غير الخالي من المديح، أو السلبي عند ظهور هنّاتٍ أو أخطاءٍ بسيطة لم ينتبه لها المخرج، الذي يُعدّ اليد التي تحيك جميع خيوط العمل التلفزيوني من مشهده الأوّل إلى مشهده الأخير، مع امتلاكه رؤيةً معينةً للأحداث، قد لا تشبه السيناريو المكتوب، أو تعيد صياغة مشاهد جديدة لم يُفكّر الكاتب بها؛ ليظهرَ قالب المسلسل التلفزيوني في لوحةٍ رسمها المخرج في مخيلته، وأراد أن يراها النّاس في منازلهم.

ظهرت في العقدِ الأوّل من القرن الواحد والعشرين إنتاجات تلفزيونية شاركت في إثراء مكتبة التلفزيون في العالم العربي، وكانت لها بصمات لم تندثر أو تُمحى حتّى لحظة كتابة هذه السطور؛ بسبب الفكرة التي سعت إلى إيصالها، والاحترافية في معالجة حبكتها، وعدم خلوّها من عنصر التشويق في جذب انتباه المشاهدين، وجعلهم يتسمّرون أمام شاشة التلفاز، مع احتدام الجدال بينهم أحيانًا؛ لتوقع أحداث حلقاتها، والالتزام بموعدِ عرض كل حلقة منها، ومتابعتها باهتمام شديد؛ من أجل معرفة مجريات العمل.

من أشهر الأعمال التلفزيونية التي حصدت جماهيرية شعبية بين المشاهدين العرب مسلسل التغريبة الفلسطينية للمخرج الراحل حاتم علي، والذي رحل في أواخر أيام 2020، كأن هذه السنة لم تأب الرحيل، وتوديعنا، إلا بعد أن يرحلَ معها كثيرون من المبدعين، أصحاب الإنجازات الخالدة في أكثر من مجال، والمخرج حاتم علي واحد منهم؛ حيث ساهم في تقديم مجموعة من الأعمال التلفزيونية المميّزة، مثل الفصول الأربعة، وأحلام كبيرة، والعراب، والتغريبة الفلسطينية هذا العمل المتكامل، الذي يتكلّمُ عن قصةٍ واقعيةٍ ولدت من رحم المأساة، وظلّت جرحًا نازفًا لم يندمل بعد.

مسلسل التغريبة الفلسطينية يعدّ أيقونةً تاريخية؛ لأنه رسّخ القضية الفلسطينية في وجدان المشاهد العربي، وجعلها أكثر قربًا منه

 

جاء التفرّد والإبداع في مسلسل التغريبة الفلسطينية ناتجًا عن التعاون بين الكاتب والأكاديمي الدكتور وليد سيف، والمخرج حاتم علي، والذي بدء من مسيرة نجاحات بينهما انطلقت من السلسلة الأندلسية التي جُمعتْ في مسلسلات، صلاح الدين الأيوبي، وصقر قريش، وربيع قرطبة، انتهاءً بملوك الطوائف الذي عُرِضَ بعد التغريبة الفلسطينية بعام واحد، كما أن أغنية بداية المسلسل لها بصمةٌ واضحةٌ جدًا في نجاحه؛ حيث عبّرت في لحنها وكلماتها عن أبعاده الدرامية، وهي مأخوذة من أبيات قصيدة (الفدائي) للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، كذلك تميّز الطاقم التمثيلي بكفاءة الأداء ومحاكاة الوقائع بصورةٍ حقيقية، وهكذا ساهمت هذه التوليفة في خروج عمل التغريبة الفلسطينية إلى الضوء، وعرضه على شاشة التلفاز في شهر رمضان من عام 2004.

استمد مسلسل التغريبة الفلسطينية أهميته، وحصد شهرة واسعة تمثّلت في سعي المحطات التلفزيونية إلى تكرار بثّهِ؛ لاتّخاذه دور الناقل الحي لمعاناة الشعب الفلسطيني منذ الانتداب البريطاني إلى نكبة 1948، وما تبعها من أحداث استطاع أن يُقدّمها ببساطة ووضوح؛ من خلال يوميات شخصياته المختلفة عن بعضها في الأحوال الاجتماعية، والتي تمثّل طبقات المجتمع الفلسطيني آنذاك، ولاحقًا اجتمعوا معًا في مصيرٍ واحد، للتأكيد على عدالة القضية واستعادة الحقِّ المسلوب، مع اختلاف طريقة كلٍ منهم في التعبير عن ذاته، فنرى المقاوم يحمل السلاح للدفاع عن أرضه، والمثقف المنادي بضرورة عودة الحقوق إلى أصحابها، وحتّى المستسلم الذي قرر الصمت، وقبول الواقع بكافة تفاصيله المؤلمة، فهكذا شارك المسلسل في تسليط الضوء على القضية الفلسطينية، وجعلها أكثر قربًا من المشاهد، ونقلها بأسلوب ساهم في الحفاظ على ذاكرتها النابضة، التي تروي جانبًا من تاريخ فلسطين لجميع الأجيال.

أرى أن مسلسل التغريبة الفلسطينية يعدّ أيقونةً تاريخية؛ لأنه رسّخ القضية الفلسطينية في وجدان المشاهد العربي، وجعلها أكثر قربًا منه، وأخرجها من إطارها السياسي البحت، وهو النمط السائد والمعروف لدى الكثيرين، فأصبحت عبارةً عن سرد تجربة أشخاصٍ عاشوا النزوح واللجوء، وتعايشوا مع الألم والفقد، وتأقلموا مع حياة جديدة تختلف عن حياتهم السابقة، وأيضًا جعلت المشاهدين يتشاركون معهم هذه التجربة بكافة تفاصيلها، وبعيدًا عن أي تجميل أو تزييف أو تغيير في مسارها، لتكون التغريبة الفلسطينية حكاية شعب لم يستسلم، واستمر في المقاومة حتّى الرمق الأخير.