مشاعر افتراضية

01 يوليو 2018
+ الخط -
عصر التكنولوجيا هو أكثر العصور نموًا؛ لأنه يتطوّر بتسارعٍ لا يقبل التوقف، ولا يتأثر بأي معيقات قد تحدّ من ازدهاره؛ لذلك من الممكن تأكيد مقولة إن "العالم أصبح قرية صغيرة"، وبات الواقع أكثر استعدادًا للتحوّل التدريجي حتّى يكون واقعًا افتراضيًا بكافة المقاييس والمعايير، فتحكّمت التقنيات الإلكترونية بأغلب مفاصل الحياة وإدارتها كيفما تشاء، ولم تتوان عن تقديم جميع الوسائل التي تمثّل حلولًا تجعل الحياة سهلة، ابتداءً من اختراع الحاسوب، ثم صناعة الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية، إلى الابتكارات فائقة الذكاء التي سيشهدها العالم خلال السنوات القادمة.

تجاوزت التكنولوجيا حدود اختراع أجهزة حديثة ومتطوّرة في كلّ يوم، بل امتدت لتؤثّر بعمقٍ في حياة الإنسان، وباتت جزءًا لا يتجزأ من مكوّناتها الأساسية، فحجزت لها مكانة مهمّة لن تتزعزع أبدًا، وأصبحت تمتلك جذورًا متينة لا يمكن إزالتها، فمثلًا لا يستطيع الكثير من الأشخاص ترك هواتفهم المحمولة ووضعها جانبًا إلا بضعة دقائق، ثم يعودون لها لا شعوريًا، لتصفح مواقع التواصل الاجتماعي أو لمجرد العبث فيها والنقر على شاشاتها.


لم تكتفِ التكنولوجيا بأن تكون جزءًا من حياة الإنسان، بل حوّلتها إلى حياة إلكترونية رقمية، وكان للتواصل بين النًّاس تأثّر واضح فيها، فصار يعتمد على شاشة مضيئة ومجموعة من التطبيقات الرقمية لإنشاء اتصال فعّال خلال وقت قصير، بغض النظر عن المكان الذي يوجد فيه كلّ شخص، وجعل ذلك بعض الأشخاص يميلون للعيش بمنأى جسدي عن محيطهم، ولا يملكون أي رابط معه إلا من خلال شبكة الإنترنت.

استبدلت التطوّرات المحيطة بالنَّاس مشاعرهم بسهولة، وحوّلتها لتكون "مشاعر افتراضية"، فأصبح بإمكان مستخدم وسائل التواصل الاجتماعي التستر وراءها لإخفاء حقيقة مشاعره عن الآخرين، وإظهار مشاعر مصطنعة وبعيدة عن الواقع، فيستطيع أي شخص إنشاء حساب إلكتروني مزيف على أحد وسائل التواصل الاجتماعي، ليقدّم من خلاله معلومات مخادعة، وهكذا يبني شخصية صناعية ذات مميّزات لا تشبهه، وترافقها مشاعر قابلة للتبديل والتغيير، ولا توجد أي صلة تربطها مع شخصيته أو حياته.

أثّرت المشاعر الافتراضية التي تعتبر من سمات العصر الحديث في النَّاس بوضوح؛ إذ كانوا في الماضي يتبادلون الزيارات ويسألون عن بعضهم بعضاً، ولكن مع ظهور تطبيقات المحادثة والتراسل الفوري التي صارت البديل المتاح والمجاني لبناء التواصل بين النَّاس، أصبحت زياراتهم مقتصرة على الأعياد والمناسبات فقط، فإرسال رسالة مكتوبة ببضعة كلمات منمّقة أو صورة تحتوي على رسومات وعبارات مزركشة، تعدّ كافية عند بعضهم لتحقيق الهدف من التواصل مع الآخرين، ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم.

بات من اللازم تأطير التعامل مع التكنولوجيا وتطبيقاتها ضمن حيز يرتقي بالمجتمعات، ويساعد الإنسان على تطوير مهاراته وإمكاناته، ويزيد من آفاقه المعرفية والفكرية في شتى المجالات، مع ضرورة الاهتمام بمحاولة تحجيم الآثار السلبية للتكنولوجيا التي حوّلت مشاعر النَّاس إلى ردود أفعال تكاد لا تعبّر أغلبها عن حقيقة شعورهم، بل تضعهم ضمن قالب يحتوي على مجموعة مشاعر كاذبة ومجانية ومنسوخة من عبارات ومقولات مكررة، تُستخدم للتعبير عن الفرح أو الحزن أو الحُبّ أو الصداقة من باب المجاملات والواجبات الاجتماعية لا غير، فإن إدراك أهمية محاولة الخروج من قالب المشاعر المزيفة، والعودة إلى التواصل بواسطة المشاعر الصادقة؛ من شأنه تقليص الهوّة الناشئة بين الأفراد في تعاملهم وتواصلهم معًا، كما يساعدهم على استعادة مشاعرهم الحقيقية التي تحوّلت إلى مجرد مشاعر افتراضية.