يا غزّة يللا؟

13 اغسطس 2024
+ الخط -

كأنّه روتين يومي؛ اقتحامات للأقصى بالمئات، يتقدّمهم ويتوسّطهم ويقودهم الصهيوني اليميني المتطرّف، إيتمار بن غفير، في كلِّ مناسبةٍ، لا يكادُ يترك عيدًا ولا احتفالًا حتى يمرّ بالأقصى، أتخيّل لو أنّه أنجب طفلًا جديدًا، أو أنّ ابنه نجح في الشهادة، أو أيّ مناسبة عائليّة، سيمرّ بالأقصى أيضًا، مُدنِّسًا حرمه الطاهر وقدسه الشريف، والمستوطنون يعيثون فيه بأعلامهم وصياحهم، ولا يتوقف الأمر عند المسجد، وإنّما المسجد وما حوله، والقرى المقدسية، وقرى الضفة الغربية، وكلّ ما يمكن تخريبه وتدميره وحرقه، وكلّ دمٍ يمكن سفكه، وكلّ مُمتلكٍ يمكن الاعتداء عليه وسلبه، والمسجد المأسور كما هو يُهوّد دون هوادة، فلا تسمع لأحد من "حماته" همسًا، ولا صوت يعلو فوق صوتِ النعيق.

وغزّة؟ غارقة في مذابحها، ممزقة أشلاؤها، مقطّعة أوصالها، تبكي بدلًا من الدموع دمًا، تتناثرُ عظامها مسحوقًا من رماد بفعل المحارق التي تشتعلُ في جسدها وحده، يتساقط لحمها عزيزةً شريفةً نبيلةً حتى نفسها الأخير، وهي ذبيحة كرامتها، وشهيدة أنَفتها، ولا تندم يومًا على إغاثة ملهوف، ولا تلبية نداء، ولا إسناد عاجز، أو الثأر لمضيوم، ولكنها يعزّ عليها أن تَغيث ولا تُغاث، وأن تُنادى فتلبّي، ثم تنادي فلا تسمع إلا صداها مبحوحًا مختفيًا بالتدريج، ويعزّ عليها أن تجوعَ وتعرى، فلا تجد من يُلقي عليها الغطاء ويمدّ لها يده بالماء والغذاء، وهي التي كانت تُطعم العالمين شهامةً ونخوةً، وإن عزّ السلاح والجُند.

"يا غزة يللا" كانت الصيحة الأولى، حيث فلسطين كلّها تستنجد بالابنة الصغرى، عائلات كاملة تتكاتف حتى تصل لتلك "البطلة الخارقة" في مخيّلتهم، تلك الأسطورة التي لا تتعب، ولا تنهك، ولا ينفد سلاحها ولا أرواحها، كأنّها عنقاء تخرج من بين الرماد، وهي لا "عنقاء" ولا يحزنون، وإنّما بشر، من لحمٍ ودمٍ، متعَبة، وحيدة، تُحاول أن تصدّ بكلِّ ما أوتيت (وهو قليل) عن إخوة الدم والأرض والعرق، فتذودُ عن الوطن العريض الكبير بقطاعها الصغير المُتآكل الملتهب، ولو بسواعد مكسورة، وأيدٍ تلفها الجبائر، وتسيل منها دماء لم تجف بعد، لكن ليست غزّة التي تُنادى فلا تقيم القيامة نصرةً لمظلومي بني جلدتها.

لم تجد غزّة من يلقي عليها الغطاء ويمدّ لها يده بالماء والغذاء، وهي التي كانت تطعم العالمين شهامةً ونخوةً

ثمّ اليوم؟ يا غزّة يللا؟ غزّة التي قالت "يللا" لأجل الجميع من قبل، اليوم تنادي هؤلاء الذين نصرتهم يوم أمس، تلك الحشود المؤلفة، وتلك الجموع الزاحفة، وكلّ هؤلاء الذين عانوا حتى رفعت عنهم الظلم، وكانت لهم ظهرًا وظهيرًا، وناصرًا ونصيرًا، تُناديهم غزّة من سويداء فؤادها، من غصّة صدرها، من أعمقِ نقطةٍ موجوعةٍ في قلبها: "يا بلادي يللا.. يا شعبي يللا.. يا ضفة يللا.. يا داخل يللا"، فتعود بخفَّي حُنين، ويُسرق الخفّان، ويُقتل حنين وسط بضاعته، ويبقى النداء بلا صدى، إلّا من شرفاء لم يتوقفوا يومًا عن فعلِ الكرامة والإجابة، يدفعون من صميم قلبهم الغالي والنفيس لأجل غزّة، أمّا البقية، الكثيرون، الغالبية العظمى، فلهم قول آخر عن السلطة التي تحاصرهم، والاحتلال الذي يقمعهم، كأنّهم عرفوا الاحتلال اليوم، لأوّل مرّة منذ ثمانين سنة، وهم الذين كانوا لا ترتعد لهم قدم ولا ترجف لهم يد، إذا أرادوا مراغمة الاحتلال ومدافعة الخائنين، يوم تقوم لهم قائمة. لكنهم اليوم، وهم يومئذ كثير، يملأ العجين آذانهم، ويملأ الطين عيونهم، ويدعون لغزّة كأنهم في إندونيسيا أو باكستان، ويتحجّجون بالسلطات كأنّهم في دول الجوار، ولا يدرون أنّ العدوّ على مرمى حجرٍ منهم، إن هم أرادوا نصرة غزّة، ولو بأن تكون العاقبة موتهم معًا، فما يفيد العاجز إن عاش وبقي رأسه تحت التراب؟ ألم يكن الأولى أن يُوارى جسده كاملًا بينما تقف عزّته فوق قبره ولم تقبل الانحناء؟!

عزيزتي غزّة التي قالت "يللا"، ثم نزفت ثمن النداء وحيدةً.. تمامًا.