البوسنة وخديعة "تسليم السلاح"!

17 يوليو 2024
+ الخط -

في سربرنيتسا، تحديدًا في مثل هذه الأيّام، كان البوسنيون يذوقون مرارةَ المذبحة، ويتجرّعون آلام إيمانهم ذات يومٍ بأنّ الاتفاقيات تُخشى إن خلت من قوّةٍ تحميها، بعدما آمنوا ذات نهارٍ بأنّ هناك مجتمعًا دوليًّا بإمكانه حمايتهم، مقابل تسليم السلاح، كانت المقاومة مجديةً إلى حدِّ سعي الصرب، ومجرم الحرب راتكو ميلاديتش، والعالم من خلفهم، إلى محاولةِ استرضاء البوسنيين بلقطاتٍ مُبتذلة، وبضماناتٍ واهية: سلمونا السلاح (وأنتم أقلية مسلمة في أوروبا تحمل البنادق في وجه محتلها، وبالتالي مصدر خطر يقلقنا جميعًا)، ونحن سنحميكم من هؤلاء القوم المعتدين.

وسلّم البوسنيون بذلك عام 1993، وصدّقوا الألسنة المُنمّقة، التي تُجيدُ رصّ الكلام في عباراتٍ دبلوماسيةٍ فضفاضة، فكانت النتيجة اعتداءاتٍ صربية متكرّرة، بذريعة مسمار جحا، إنّ البوسنيين سلموا أسلحتهم القديمة فقط، أمّا الجديدة فبقيت معهم، وهنا كان الدرس أنّ المحتل لا يكتفي بأن تحني رأسك ولو من دون قصد، ولن يكتفي بأن تعقد معه عهدًا وتضع يدك في يده، وإنما لن يقبل بأقلّ من أن تتجرّد من كلِّ شيء، حتى أدق التفاصيل، تتعرّى تمامًا من كلِّ سلّاكة أسنان قد تشكّه بها ذات يوم، وهنا بدأ الصربُ التضييق على مسلمي البوسنة، والمجتمع الدولي حاضر ومراقب، والقوات الهولندية تهنأ في معسكراتها، ولا أحد يحمي من كانوا بالأمس يحمون أنفسهم بما حملته سواعدهم.

لم يكن مسلمو البوسنة حمقى، ولم يكونوا مغفلين، ولا يمكن تحميلهم جريمة انخداعهم، وإنّما الجرم كلّه على المحتل والمجتمع الدولي المجرمين في ذلك الوقت، ولكن ذنب البوسنيين كان أنّهم آمنوا وصدقوا بالعدالة الإنسانية في رحاب البشرية السمحاء، بينما لا بشرية سمحاء، ولا احترام، ولا إنسانية، إذا سقطت البارودة من يديك، لن يدعوك تميل لتلتقطها، وإنّما ستجدهم يقطعون رأسك قبل أن ترفعها مجدّدًا، وذلك تحديدًا ما حدث، بعدما جوّعت القوات الصربية بقيادة جزار البلقان ملايين البوسنيين، وحوّلوا البلاد التي عرفوها وأحبوها إلى معسكراتِ اعتقالٍ، فقط لأنّهم أرادوا الانفكاك من قيودِ يوغوسلافيا المتحلّلة، مثلهم مثل البقية، لكنهم لم يكونوا بالنسبة لهؤلاء مثل البقية أبدًا، وإنّما رأوهم مصدر تهديد لقوميتهم، وبسط سيطرتهم على البلقان كلّه.

العالم لا يحترم الضحية، بقدر ما يُشفق عليها، ثم يعتبر ذبحها ضرورةً لاستمرار دوران عجلة العالم

جُوّع البوسنيون حتى بكوا بدل الدموع دمًا، وقرقرت بطونهم حتى لم يعلُ شيء فوق صوتهم، وانهمرت المساعدات عليهم وهم قوم أعزة ذوو أنَفة وغنى، ثم مُنعت المساعدات عنهم وتكدّست على حدودهم، حتى حلّ الحادي عشر من يوليو/ تموز عام 1995، وبقوا لمدّة أحد عشر يومًا، يُذبحون واحدًا تلو الآخر، يُفصل الرجال عن النساء، والأطفال عن عائلاتهم، ويلجأ عشرات الآلاف منهم إلى معسكرات الهولنديين من قوات "حفظ السلام"، ليَسلموا، وقد ظنّوا أنّهم اعتصموا بقويّ، لكنهم سُلَّموا إلى القواتِ الصربيّة التي ذبحتهم، لتقع المجزرة الكبرى، والإبادة الأبشع منذ الحرب العالمية الثانية، وتنزف البوسنة (التي آمنت بالأمس بالحماية) ثمانية آلاف شهيد (وهي تحت الحماية!)، ويُذبح الأطفال ويُعتقل الرجال وتُغتصب النساء العفيفات الكريمات، وربّما ما كان ذلك ليحدث لو حضرت بضعة آلاف من البنادق مع الرجال، فدكوا معسكرات العدو بدلًا من احتجازهم عرايا داخلها.

وكان ذلك هو الدرس الغالي، الذي دُفعت مقابله أزكى الدماء، وأزهقت لأجله أكرم الأرواح، لتقول ما قاله التاريخ وأكده في أكثر من مناسبة كبيرة، بأنّه لا احترام ستحصل عليه إن لم تجبر خصمك على احترامك، فالعالم لا يحترم الضحية، بقدر ما يشفق عليها، ثم يعتبر ذبحها ضرورةً لاستمرار دوران عجلة العالم، فيغسّلها بدموع تماسيح، قبل أن يركلها بمؤخرة قدمه في أقرب مقبرة جماعية، وسط مراسم وهمية لمحاكماتِ المجرمين (في أحسن الأحوال)، ويموت الشهيد بلا بواكٍ، ويفهم متأخرًا أنّ هؤلاء الشهود الذين يحضرون توقيع اتفاق السلام وتسليمك السلاح، لن يكونوا حاضرين حين يخرق الاتفاق وتُقتل بالسلاح نفسه الذي سلّمته أمامهم قبل قليل.