ياسين الحكيم: الحياة دربٌ أم طريقٌ؟
في زيارتي الأخيرة إلى تونس، قمتُ بجولةٍ سياحيةٍ مع أصدقائي الثلاثة فاطمة وزوجها حاتم وابنهما ياسين ذي الثمانية أعوامٍ. وقد انطلقت رحلتنا من صفاقس، العاصمة الاقتصادية أو الصناعية، وانتهت في تونس، العاصمة السياسية، وزرنا خلالها القيروان والمنستير والحمامات ومناطق أثريةً مختلفةً. ومن بين تلك المناطق قصر الجم الذي يضم أكبر مسرحٍ رومانيٍّ خارج روما. وفي هذا المسرح، وفي مناطق أخرى، كنّا نتسابق أنا وياسين، في صعود الأدراج أو نزولها. وكنت حريصًا على أن أجعله يسبقني، من ناحيةٍ، وعلى إظهار إحباطي قليلًا من خسارتي وفوزه، من ناحيةٍ أخرى. ثم بدأت ألاحظ أنّه أصبح يتباطأ عن قصدٍ، ليسمحَ لي بالفوز، وقد أسرَّ لوالدته بذلك، بعد أن أبدت استغرابها من خسارته وفوزي، في أحد السباقات. رأيت في تصرّف ياسين سماحة نفسٍ، ونضجًا مبكرًا، ودلالةً على شخصيةٍ نفسيةٍ سويةٍ تلقت تربيةً مناسبةً. فقوي الشخصية فقط هو من يقبل أن يبدو، أحيانًا، في أعين الآخرين ضعيفًا.
التوازن بين الرؤية البراغماتية والرؤية المبدئية، بين تمجيد النجاح والسعي إليه، من ناحيةٍ، وتطبيع العلاقة مع حالات الخسارة والإخفاق والفشل والتعلّم منه، واستيعابه، في طريق تجاوزه، من ناحيةٍ أخرى، ليس أمرًا سهلًا، لكنه مطلوبٌ وضروريٌّ جدًّا عمومًا، وينبغي أن يكون حاضرًا في كلّ عملية تربيةٍ وتعليمٍ. ومن السهل، نسبيًّا، تعليم الطفل أهمية النجاح والسعي إليه. الصعب والمهم جدًّا تعليمه تقبّل الخسارة والفشل والإخفاق بروحٍ طيّبةٍ. ولا يسمح "مجتمع الاعتراف والاحتقار" للإنسان أن يطبِّع علاقاته مع حالات الإخفاق، بل يجعل من تلك الحالات، في حالاتٍ كثيرةٍ، مصدرًا ليس للازدراء الاجتماعي فحسب، بل لازدراءِ أو حتى احتقار الشخص لنفسه أيضًا. وانطلاقًا من ذلك، أزعم أنّني أبذل جهودًا مضاعفةً في علاقتي مع ابني ريمي، لكي أجعله يتفاعل بإيجابية مع حالات الخسارة، من خلال التأكيد له، بالقول والفعل، أنّ القدرة على التفاعل الإيجابي مع الخسارة شرطٌ أساسيٌّ، في كثيرٍ من الأحيان، لامتلاك القدرة على النجاح. ومع ذلك، ما زلت أرى أنّه يفرح كثيرًا عند فوزه عليّ في أي منافسةٍ بيننا (في كرة القدم أو السلة أو الطاولة أو سباقات الجري أو لعب الشدة إلخ)، ويتوّتر ويشعر بالغضب والإحباط عند تعرّضه لأيّة خسارةٍ.
وليس سهلًا، في مجتمعٍ يعترف بالمتفوّقين، ويحتقر أو يزدري من عداهم، أن ننجح في تربية أطفالنا، وتربية أنفسنا، على التفاعل الإيجابي مع العالم والآخرين، في حالات الفشل، وحالات النجاح أيضًا، لكن ياسين الحكيم دليلٌ على أنّ هذه الإمكانية ما زالت موجودةً بقوةٍ؛ وقد أبهرني في تجسيدها وممارستها بكلّ ودٍّ وأخلاقٍ كريمةٍ بدت لي أنها أقرب إلى الفطرة من فرط عفويتها. وحتى عندما كنت أسبقه، من دون أن يحاول التباطؤ، كان يتلقى الهزيمة بابتسامةٍ، مع محاولة تحسين أدائه في المرّات المقبلة.
من السهل، نسبيًّا، تعليم الطفل أهمية النجاح والسعي إليه. لكن الصعب والمهم جدًّا تعليمه تقبّل الخسارة والفشل والإخفاق بروحٍ طيّبةٍ
التعامل المرَضي مع حالات الهزيمة أو الفشل أو الإخفاق أو الخسارة لا يقتصر على الشعور بالرهاب منها ومحاولة تجنبها بطرقٍ غير مناسبةٍ، بل قد يتجسّد في إنكار حصول تلك الحالة، حتى بعد حصولها، وإطلاق المزاعم بتحقيق الانتصار (الخلبية). وقد أشرت في مدوّنتي السابقة عن "المفاهيم المتضايفة" إلى أنّ هناك من يتصرّف وفق منطق "مات المريض، لكن العملية كانت ناجحةً". ويبدو أنّ "جماعة المقاومة والممانعة" يتبنون هذا المنطق دائمًا. فهم ينكرون تعرّضهم لأيّة هزيمةٍ، مهما حصل، في مواجهتهم مع "العدو". وتعاني الشعوب المحكومة من قبل هذه "الجماعة"، وتخشى كثيرًا من توالي انتصاراتها، لأنّ تلك الانتصارات تترافق، غالبًا وعمومًا، مع خسائر وويلات ومصائب، تبدو أكثر وأكبر من كلّ المكاسب الفعلية أو المزعومة، من تلك الانتصارات الحقيقية أو الموهومة. ويصعب تخيّل أو تصوُّر إمكانية تحقيق الانتصارات الفعلية، من دون قبول إمكانية التعرّض للهزائم الفعلية، ومن دون الاستعداد للإقرار بتلك الهزائم عند حصولها.
ويمكن للعلاقة المَرَضية غير الصحية مع فكرة الهزيمة أن تتجلّى في الحساسية الهائلة من النقد/ الانتقاد التي نجدها في ردود فعل بعض الشخصيات الفكرية العامة. ويستهجن كثيرون عدم تقبّل أو حتى قبول تلك الشخصيات للانتقاد أو حتى النقد. وليس نادرًا أن يُصاب أشخاصٌ كثيرون بالدهشة والإحباط عند التقائهم بشخصياتٍ عامةٍ من كتّابٍ ومثقفين. وغالبًا ما تتخذ الدهشة صيغة الصدمة، حين تبدو تلك الشخصيات بعيدة عن التوّقعات الإيجابية المبنية على أساس معرفة مضامين خطابها ونصوصها في المجال العام. ثمّة أسبابٌ كثيرةٌ تفسّر ذلك التباين بين الشخص وشخصيته في المجال العام، ومن بينها هو أنّ بعض تلك الشخصيات تكون جسرًا للمعارف والأفكار، وحتى بعض القيم، وليس موطنًا لها. فهي تتلقى تلك المعرفة لتصديرها، وليس لاستهلاكها. وقد أشار الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه إلى ظهور هذه المسألة، ظهورًا بارزًا، عند (بعض) من يمتهنون الكتابة والتعليم، تحديدًا أو خصوصًا. فالكاتب المحترف لا يقرأ، عادةً، ليتعلم ويفكر لنفسه، وإنّما ليقوم، لاحقًا، بنقل أو تقديم تلك المعرفة إلى القرّاء، وكذلك هو حال المعلّم الذي يرى نيتشه أنّه "ينتهي بأن ينظر إلى نفسه كمعبر للمعرفة، وإجمالًا كمحض وسيلةٍ، حتى أن جديته بخصوص نفسه لا يعود لها وجود". ولن أتحدث هنا عن الحالة الشائعة الأسوأ والمتمثلة في تركيز المعلّم اهتمامه، وبالتالي اقتصار دوره التعليمي، لا على نقل المعرفة للطلاب، وإنّما على تعليمهم أو تلقينهم تقنيات اجتياز الامتحان و/ أو الحصول على أكبر علامةٍ أو درجةٍ فيه.
يصعب تخيّل أو تصوُّر إمكانية تحقيق الانتصارات الفعلية، من دون قبول إمكانية التعرّض للهزائم الفعلية، ومن دون الاستعداد للإقرار بتلك الهزائم عند حصولها
تحوُّل أو تحويل الكاتب والمعلّم إلى جسرٍ للمعرفة، وليس موطنًا لها، ناتجٌ من التركيز على الهدف المتمثل في نقل المعرفة للطلاب أو القرّاء، ونسيان أو تناسي ضرورة أن يغتني المعلّم أو الكاتب ذاته بتلك المعرفة، والاهتمام أو الانهمام بما تتضمنه من أفكارٍ وقيمٍ وإشكالياتٍ نظريةٍ ومشكلاتٍ عمليةٍ. وهذا التركيز على الهدف يجعل التعليم طريقًا لا دربًا. وهذا التمييز حاضرٌ لدى ميلان كونديرا ومارتن هايدغر وآخرين. فعلى العكس من الدرب الذي نتمشّى فيه، ونستمتع ونغتني بتفاصيل المسار والمسير، بغضّ النظر عن وجهتيهما ونهايتيهما، فإنّ أهمية الطريق تكمن، تحديدًا، في كونه يسمح لنا بالوصول إلى نهايةٍ ما نسعى إلى الوصول إليها. ففي الطريق يتم التركيز على المستقبل، والإعداد له للوصول إلى النتيجة المرجوة؛ أمّا في الدرب فيكون التركيز على الحاضر، وعلى الاستمتاع فيه، والاستفادة منه، والاغتناء به. وربّما يدفعنا إدراكنا بأنّ نهاية الطريق الإنساني هي الموت، إلى التفكير في جعل حياتنا دربًا لا طريقًا، لكن متطلبات الحياة، ومتطلبات جعلها دربًا، فد تجعلنا، في المقابل، نعطي الأولوية لتحقيق تلك الأهداف، والتضحية بدربية المسار المفضي إليها. فالتركيز على هذا التحقيق يجعل حياتنا طريقًا، لا دربًا. وغالبًا ما يجد الناس أنفسهم مضطرين إلى التضحية بالحاضر في سبيل مستقبلٍ منشودٍ ما. في المقابل، هناك من يصر على أن يجعل حياته دربًا، على الرغم من العواقب المستقبلية السلبية المرجحة.
ياسين رفض، بحكمةٍ، تحويل اللعب بيننا إلى مباراةٍ، وأصرّ على أن يكون دربًا، وليس طريقًا. فالمهم هو الاستمتاع أثناء اللعب. وفي هذه الحالة يكون الكل فائزًا، حتى الطرف الذي يبدو أنه خسر. وهكذا نجح ياسين بمحاولته تعمّد الخسارة في أن يكسب احترامي وتقديري الكبيرين.