وتحسب أنك جرم صغير
أتحدث في هذه التدوينة تحديداً عن شخصية لويس شتراوس الرئيس السابق لهيئة الطاقة الذرية الأميركية ومن هم على شاكلته.
تنويه: قد تحتوي هذه التدوينة على حرق لتفاصيل فيلم أوبنهايمر لمن لم يشاهد الفيلم أو يعرف بما حدث في الواقع.
تدرج لويس شتراوس في عدة مناصب مهمة منها عمله بوكالة الطاقة الذرية وكان عمله بها محرك الأحداث التي نحن على وشك التحدث عنها، وكاد أن يكون وزير التجارة لولا جنون العظمة الذي كان يتملكه منذ البداية وكان السبب في كتابة نهايته.
لم تمكنه ظروفه من دراسة الفيزياء التي أحبها وتمنى دراستها ولكن الحياة أعطته العديد من الفرص التي حسنت من وضعه، وكادت أن تضعه على القمة التي كان يطمح إليها، لكن إحساسه المبالغ بغروره جعله يدمر نفسه قبل أي شخص آخر. فبدلاً من التركيز على حياته الخاصة ومسيرته التي يجب عليه العمل عليها، قرر أن يتفرغ لتدمير أوبنهايمر الذي سخر منه مرة واحدة أثناء أحد النقاشات والتي لم ينسها طيلة حياته.
وبعد فقدانه لفرصته للوصول لمركز وزير بسبب غبائه وإصراره على تضييع وقته وجهده وموارده على ما لا يفيد بتشويه صورة أوبنهايمر بدلاً من العمل على تحسين صورته الخاصة، ظل يعتقد أنه غير مسؤول عن تلك الخسارة وأن أوبنهايمر عدوه اللدود وكارهه الناقم عليه هو السبب في إجماع المسؤولين على سحب المنصب منه.
ما شتت انتباهي أثناء مشاهدة الفيلم كان إحساس لويس شتراوس بأنه الضحية المستضعفة، الوطني المحب للأمة ولنصرها، والذي لم يجد المقابل لهذا الحب الذي قدمه ولم يتلق سوى الاستهزاء والسخرية من أفكاره العظيمة.
كم من المرات واجهنا لويس شتراوس الخاص بنا؟ الذي ترك الحياة تدور من حوله وجعل هدفه الأوحد هو العبث بحيوات من حوله ليشعر بالأمان الذي لم يفتقده من الأساس؟
وكم من المرات فعلنا نفس الشيء؟ فتركنا ما علينا فعله وصببنا تركيزنا الكامل على مؤثرات جانبية أو أعداء وهميين صنعناهم لأنفسنا وهم غير موجودين من الأساس؟ أو قررنا الانتصار لأفكارنا الخاطئة لمجرد أنها أفكارنا بدون الانتباه للصواب الذي جانبنا تماما لمجرد الشعور بالانتصار الشخصي الزائف؟
فزاعات صنعها غباؤنا وإحساسنا بأننا شديدو الأهمية لدرجة تمحور الكون حولنا نحن وحولنا وحدنا
فزاعات صنعها غباؤنا وإحساسنا بأننا شديدو الأهمية لدرجة تمحور الكون حولنا نحن وحولنا وحدنا. يقول بيت الشعر الذي استخدمته كعنوان لهذه التدوينة:
"وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر".
في حالة لويس شتراوس ومن على شاكلته لا أرى أن المقولة ما زالت تنطبق عليهم كما تنطبق على الجميع.
فحين كتب هذا البيت الشعري لم يقصد الكاتب بكل تأكيد أننا كأشخاص محور الكون، أو أنه يحق لنا أن نستغل كل ما يقع تحت أيدينا لصالحنا ولو كان صالحنا هذا سيضر من حولنا حتى يشملنا الضرر في النهاية.
للأسف غباؤنا هنا لا يجعلنا نرى هذا الضرر ولو وقع علينا، ويظل الشخص في تلك الحالة يعتقد أن الحياة تحاربه وأنه كثير الأعداء وأنه محق، ونظل نبني حصونا وخططا للمواجهة بينما نحن في الحقيقة أغلب الوقت واقفين في العراء لا تحيطنا طواحين هواء لنحاربها.
بالرغم من الكارثة التي يناقشها الفيلم وما حدث على أرض الواقع والخسائر البشرية التي لم تكن تعلم أنها على موعد مع نهايتها لاختبار أحدث الاختراعات الأميركية التي صنعت كما قالوا لردع الأعداء والدفاع عن الوطن في حالة اللزوم وقت الحرب مع الألمان، ظهر لنا من اللا مكان لويس ليشعر بأنه أكثر أهمية ويملك استحقاق إيقاف أهم علماء وقته من العمل، بغض النظر عن اختراع القنبلة وخسائرها التي لا نناقشها هنا، ليدفع ثمن إهانته التي ارتآها أكبر وأكثر كارثية مما حدث للضحايا، ومن تطوير الأسلحة الذي كان شغل الحكومة الشاغل وقتها لتأمين نفسها في صراع التسليح الذي بدأ من لحظتها ولم يتوقف حتى وقتنا هذا.
أتفق مع أبيات الشعر بالأعلى، وأتفق أن الإنسان قادر على فعل المستحيل ويملك الكثير بداخله، ولكن في بعض الحالات ومع بعض الأشخاص لا يتعدى الأمر كونهم أي شيء سوى هذا الجرم الصغير، الذي يجب أن يقف عند حده ويعرف حجمه الحقيقي، لكننا مع الأسف نضعه في مكانة أكبر من حجمه، ونترك له مساحة لا يستحقها فيتصرف تصرفات لا تليق به ولا يسمح له حجمه بممارستها، فلا نستطيع أن نحمي أنفسنا ولا حمايته هو شخصياً من نفسه ومما جلبه بجنونه علينا.