من الجاني؟ ليلى أم الذئب؟
إنّ التاريخ هو ما يكتبه المنتصرون في نهاية المطاف، أو من بقي من الناس ليحكي ويصف ما حدث. ومؤخراً، يشارك البعض جملةً على منصّات التواصل الاجتماعي، لعمقها من وجهة نظرهم الخاصة، جملة تقول "كلنا سمعنا القصة من ليلى، ولكننا لم نسمعها من الذئب".
يعتقد هؤلاء أنّ ليلى هي المُذنبة. وهنا، لا يمكننا بالطبع إنكار أنّ لكلِّ قصّةٍ جانبا مخفيا أو غير مسلّط الضوء عليه مثلا، وأنّ الجميع يبالغ أو ينسى بعض التفاصيل عند البدء بالحكي، لكن بالتأكيد لا يمكن لنا أن نقلب الآية ونمحو ذنب الطرف الآخر بالكامل، فقط لأنّ للقصة طرفين أو لأنّنا نتعاطف مع طرف نفضّله.
نشاهد يومياً مئات المنشورات على المنصّات المختلفة، سواء كانت نصيّة أو سمعيّة أو مرئيّة، التي تحكي عن كلِّ شيءٍ يحدث في الحياة اليومية. حوادث أو مواقف طبيعية نجدها بالتفصيل الدقيق على لسانِ عددٍ لا بأس به من الأشخاص، ويتفوّق بعضهم عن آخرين بسردِ التفاصيل التي تجعل من محتوى أحدهم أكثر أهميّة وأكثر مشاهدة. بعضهم بالتأكيد ينقل ما وصله بدون زيادة أو نقصان، والبعض يقوم بوضع بعض البهارات لجعل القصة مشوّقة ووضع المشاهدين على الحافة دائماً بانتظار جديده.
لا يمكن لنا أن نقلب الآية ونمحو ذنب الطرف الآخر بالكامل، فقط لأنّ للقصة طرفين أو لأنّنا نتعاطف مع طرف نفضّله
الكارثة الأكبر هنا، تكمن عندما يقوم "الجاني" بتأليف تفاصيل أخرى لتحسين صورته، أو لإلقاء جزء من المسؤولية (إن لم تكن كلها) عن عاتقه؛ فتجد من يخبرك بأنّه كان على علاقةٍ بأصحاب المنزل الذي ذهب لسرقته ليسقطَ عنه نقطة الاقتحام على سبيل المثال، أو تجد أحد الخاطفين يخبرك بأنّه كان على صلةٍ وثيقة بالمخطوف، وأنّهم اتفقوا على المقابلة ولكن حدث ما حدث بيننا وانتهى الأمر... وهكذا يُعاقب الجاني فقط على الواقعة نفسها ويتجنّب إضافة مشكلة الاختطاف من أساسها!
الأمثلة السابقة رأينا منها على مرّ الزمان، والبعض (بسبب ذلك) انتهى أمره وسمعته في لحظةٍ واحدة، ولم تظهر حقيقة موقفه إلّا بعد عقودٍ كاملة، وما فائدة الحقيقة وقتها بالنسبة له، وقد اقتنع كلّ من حوله بسوء موقفه؟
عدالة متأخرة جداً، لكنّها عدالة على أي حال، ولا تأتي للجميع
على اختلاف المواقف ينتهي أمره وأمر المقرّبين له بالتبعيّة، لأنهم ملوّثون مثله، ليفقدوا الفرص والتعاطف بالرغم ممّا فقدوه. عدالة متأخرة جداً لكنّها عدالة على أي حال، ولا تأتي للجميع للأسف الشديد. ولا يسعنا أن نفعل أي شيء سوى التعامل مع الحقائق التي تحدث من حولنا بغضِّ النظر عن صدقها من عدمه، فهي كلّ ما نملك.
يتحدّث الذئب دائماً، ولا نملك (كما ذكرتُ) إلّا الوقائع، لكنه يتحدّث على أيّ حال، ويستمع إليه الكثيرون ويتعاطفون معه وينكرون على ليلى دفاعها عن نفسها مئات المرّات يومياً.
وكمثالٍ أخير هنا، أذكر "ليلى" المحتلة من عام 1948، التي يحكي الذئب عنها من لحظةِ اغتصابها قبل عقودٍ عديدة وحتى الآن، ويصدّقه الجميع، بالرغم من وضوح الحقائق ومعرفة الجميع بما تتعرّض له، لكنها للأسف لا تجد من يقف إلى جوارها، أو حتى يعطيها فرصةً، لتتحدّث عن ما تعانيه ويراه العالم أجمع.