هل هناك أدب زائف؟
هناك العديد من المصطلحات المنتشرة في زمننا الحالي، والتي تُرفق بصفة "الزائف/ة"، مثل "العلم الزائف" و"علم الحفريات الزائف" و"الفلسفة الزائفة". المصطلح الأخير أشق في استعماله مقارنة بما سبقه، لأنّ نطاق المنهجيات والمذاهب الفلسفية واسع، والخلاف في تعريفاتها وأصولها أكثر احتداماً منه في العلم، بل يمكن اعتبار العلم ومنهجيته مذهبًا من المذاهب المعرفية الواقعة ضمن الفلسفة. لكن لماذا لا يظهر مصطلح "الأدب الزائف"؟ والمقصود به الأدب الذي لا يلتزم بالقواعد والأهداف الأدبية، أو الأدب الذي لا تظهر فيه جدية مؤلفه في خلق نص أدبي.
بحثت عن ذلك المصطلح في كلتا اللغتين الإنكليزية والعربية. في اللغة الإنكليزية، ذلك المصطلح (Pseudo-literature) نادر الاستخدام ولا تجد له تعريفًا في معظم المعاجم. كما أنّه قد يشير إلى الكتب المنسوبة خطأ أو قصدًا لغير أصحابها، ويشبه في ذلك مصطلح "الترجمة الزائفة"، والذي يعني أنّ المترجم اختلق نصًا وزعم أنه ترجمه من لغة أخرى لمؤلف آخر. أما في العربية، فلا يبدو أنّ تلك الكلمة تُستخدم كمصطلح، بل تُستخدم كوصف. كما أنها تُستخدم في أحيان كثيرة بمعنى تصنّع السلوك الحسن.
لكننا لم نجب عن السؤال، ما هو الأدب الزائف؟ وإن كان هو الذي لا يلتزم بقواعد الأدب وأهدافه، فما هي قواعده وأهدافه؟ ليس هناك إجابة عن ذلك السؤال، بل هناك إجابات متعدّدة بعدد المذاهب الأدبية، وربما بعدد الأدباء.
إذا ما نظرنا لمصطلح "العلم الزائف"، فسنجده أكثر صلابة ووضوحًا، ومرتبطًا بأفكار محدّدة لا يختلف فيها مستخدمو ذلك المصطلح. فإذا ما ذكر "العلم الزائف" تذكر نظريات الأرض المسطحة، ومعارضة التلقيح، والتنجيم، وغيرها. أما مصطلح "الفلسفة الزائفة" فدلالاته أغنى كما أشرنا، وكثيرًا ما يرتبط ذلك المصطلح باسم فيلسوف محدّد، فيقال: "الفلسفة الزائفة عند هيغل تعني كذا وعند كانط تعني كذا"، وذلك باستخدام يناسب المصطلح محلّ المناقشة.
إنّ سلطة الأديب كسلطة الفيلسوف من ناحية الأفكار، أما من الناحية الفنية فهي أضعف بكثير ويجب أن تكون كذلك أو أن تفنى تمامًا
مشكلة أخرى من مشكلات ذلك المصطلح هو ما يتعلّق بمسألة ومشكلة السلطة. يمتلك العالِم شكلا من أشكال السلطة في مجال اختصاصه، سلطة معرفية، يمكنه بها أن يقرّر ما هو "العلم الزائف" ويحاربه من الناحية المعرفية. تفرض تلك السلطة نفسها بسبب النجاحات الملموسة للعلم على الحياة اليومية. سلطة الفيلسوف أقل بكثير من سلطة العالم لأنها محل نزاع بينه وبين غيره من الفلاسفة وغير الفلاسفة. أما الأديب فيمكن القول إنّ سلطة الأديب كسلطة الفيلسوف من ناحية الأفكار أما من الناحية الفنية فهي أضعف بكثير ويجب أن تكون كذلك أو أن تفنى تمامًا. رغم ذلك، فالسلطة الفنية، وغير الفنية، تكاد تكون كالماء والهواء في بلادنا، ولها عندنا أيقونات تناضل لتثبيت تلك السلطة، أشهرها الملحن حلمي بكر، الذي شاخت موهبته فصار شرطيًا وقاضيًا للفن في مصر والشرق الأوسط. لكن السلطة في مصطلح كذلك هي شيء عرضي، لا شيء جوهري، فالهدف منه الوصف لا تكوين سلطة.
استخدام مصطلح "الأدب الزائف" من شأنه أن يساعدنا على التأمل في الأدب، وفي تطويره. كما سيساعدنا على تحليل ظواهر مثل سبل النشر الأدبي في وطننا العربي التي لا يقرأها إلا أصحابها وغيرها من الظواهر التي تستحق التأمل. رغم ذلك، سأتردد كثيرًا قبل أن أستخدم ذلك المصطلح، ربما لجدّته وقلّة استخدامه، وربما خوفًا من أن يخنق أجواء التأليف الأدبي، وهي المخنوقة بالفعل في بلادنا.