فلسطين والسياسيون الشعراء
"إن تكُن كلماتُ الحسينْ..
وسُيوفُ الحُسينْ..
وجَلالُ الحُسينْ..
سَقَطَتْ دون أن تُنقذ الحقَّ من ذهبِ الأمراءْ؟
أفتقدرُ أن تنقذ الحقَّ ثرثرةُ الشُّعراء؟".
(أمل دنقل)
بعد فترةٍ قصيرةٍ من بداية العدوان على شعبنا الفلسطيني في قطاع غزّة والضفة الغربية في فلسطين المحتلة، أصابني إحساسٌ بالغٌ باليأس والصدمة، وبقيت أجتر تلك الأبيات التي تتطابق مع وضع الفلسطينيين الآن.
رأيت أنّ ثرثرتي، وثرثرةَ الكثيرين، لا تُسمن ولا تُغني من جوعٍ، ولا من عطشٍ، ولا من بردٍ، ولا من غيرها من المآسي التي يُعايشها الفلسطينيون بشكلٍ متصل. رغم ذلك، كان هناك في داخلي شيء من الثقة بالكتابة والرواية والتدوين، ثقة بالتأثير البطيء للتعلّم والتفكّر والتأمّل عبر الكتابة والقراءة، والذي هو بلا شك السلاح العربي الأهم للبقاء.
كثيرة هي المواقف العربية التي لم تكن إلا شكلًا من أشكال "ثرثرة الشعراء" التي تليق بشاعر جوال، لا سياسي يهابه كثير من عوام بني وطنه
أبرّر لنفسي (ربّما محاولة لإرضاء النفس) بأنّ يأسي هذا ناجم من كوني شاباً من ملايين الشباب، لا أتميّز بسلطة، ولا ملكة، ولا موهبة، لا أملك ضرًّا ولا نفعًا، ولن يغيّر ما أقوله أو أكتبه كثيرًا. لكنّي لا أجد ما يبرّر ثرثرة السياسيين العرب. كثيرة هي المواقف العربية التي لم تكن إلا شكلًا من أشكال "ثرثرة الشعراء" التي تليق بشاعر جوال، لا سياسي يهابه كثير من عوام بني وطنه. لست أتحدث عن موقفٍ عربي "لا يحاور ولا يتكلم إلا بالسيف"، بل عن شيء أبسط بكثير، أبسط من أن يُطلب حتى. فلنستثنِ الحديث عن أيّة مسألة "خلافية"، لكن هل توفير الخبز مسألة خلافية؟ هل توفير الماء مسألة بحاجة إلى مشاورات؟ كيف سيبرّر العرب وجودهم كدول وكقيادات، بل وكشعوب ومجتمعات بعد ما حدث ويحدث في فلسطين؟ صار من الواضح أنّ هناك تغييراً قادماً لا محالة بعدما فقد كثير من الكيانات العربية وظيفته، وأظن أنّ التغيير سيكون تغييرًا للكيانات لتلبي وظيفة ما في مجتمعاتنا، أو ربّما تغييرًا للوظيفة نفسها، شكلًا أو موضوعًا.
خاطب الرئيس الأميركي جو بايدن الكونغرس الأميركي قائلًا: "التاريخ يراقب"، وردّدها ثلاثًا ثم أردف: "الإخفاق في دعم أوكرانيا في تلك اللحظة الحرجة لن ينسى"، ردًّا على الذين يمانعون إرسال مساعدات إلى أوكرانيا. كم من قادتنا يذكر تلك الحقيقة، التي يذكرها هذا "الشيخ" كثير النسيان، حقيقة أنّ "التاريخ يراقب"، وأنّ الوضع الفلسطيني في لحظة حرجة أيضًا بما يزيد على المليون لاجئ في رفح تحت القصف الجنوني. التاريخ لا يراقب فقط، بل يطارد أيضًا، وسيطاردنا طويلًا وسيزيد على جروحنا في فلسطين جرحًا لن يندمل قريبًا، أو ربما لن يندمل أبدًا.