هل نجح الإعلام التركي في امتحان غزّة؟
يقدر الإعلام في عصرنا الحالي على جعل الحق باطلاً والباطل حقاً، لذلك تُصرف ميزانيات هائلة على وسائل الإعلام في كلّ الدول العربية والغربية، علماً أنّ للإعلام رسالة سامية تتمثل في نقل الحقيقة للشعوب بدون أيّ تسييس، ومن ثم تقرّر الشعوب كيفية التعامل مع هذه الحقيقة.
وفي عالمنا الحالي، يُستخدم الإعلام لهدفين اثنين، إمّا لنقل الحقائق أو لتزييف الحقائق، وهذا ما نراه حالياً في بعض وسائل الإعلام الغربية في كيفية تغطيتها لما يحصل في قطاع غزّة. أمّا إذا أردنا أن نتكلم عن "نقل الحقائق"، فنستطيع أن نتكلم عن الإعلام التركي وكيفية تغطيته لما يجري في قطاع غزّة، مع أنّ الإعلام التركي لا يملك ميّزات وميزانيات الإعلام الغربي، ومع ذلك قرّر أن يقف إلى جانب الحق ضد الباطل.
الإعلام التركي المؤيد
نعلم جيداً أنّه يوجد إعلام تركي مؤيّد للحكومة التركية وإعلام تركي معارض لها، ومنذ اليوم الأوّل لعملية طوفان الأقصى، كان الإعلام المؤيّد داعماً للفلسطينيين مع أنّ الخطاب السياسي التركي في بداية الأمر لم يكن حاد النبرة، بل تصاعدت حدّة التصريحات مع تزايد خطورة الوضع في غزة، حيث رأينا حماساً ودعماً معنوياً كبيراً في كلّ وسائل الإعلام التركية، لأنّ حكومة حزب العدالة والتنمية عملت خلال قرنين من الزمن على تغيير مجرى الإعلام التركي، والذي كان في السابق منكفئاً على الأخبار التركية، وبعيداً بعض الشيء عن تغطية الأخبار العربية، لنشهد تدريجياً خطوات ملموسة على أرض الواقع من قبل الحكومة التركية للتقارب مع العالم العربي، كما تمّ افتتاح قناة "تي أر تي" الناطقة بالعربية، بالإضافة إلى العديد من الصحف الإخبارية الناطقة بالعربية أيضاً.
وتصاعدت التغطية الإعلامية التركية داخل تركيا وخارجها مع تطوّر الأمور في فلسطين، حيث شاهدنا ازدياد مساحة الملف الفلسطيني في نشرات الأخبار التركية، ومن ثم شهدنا العديد من البرامج والتغطيات الخاصة، كما شاهدنا المراسلين الأتراك على أرض فلسطين، وهم يعملون في ظروف صعبة جداً بسبب الغارات الإسرائيلية التي لا تحترم الإعلام والصحافيين، بشكل عام، والصحافيين الأتراك، بشكل خاص، لأنهم لم يرضخوا للرواية الإسرائيلية، وصمّموا على نقل الحقيقة كما هي، إيماناً منهم بأنّ الإعلام أمانة، حيث صرح رئيس المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون، أوب بكير شاهين، بأنّ "موضوع غزة كان امتحاناً للإعلام، وأنّ الإعلام التركي نجح في هذا، ووقف بجانب القضية الفلسطينية على عكس بعض الإعلام الغربي".
لأنّ الإعلام يجب أن يكون عاكساً لقضايانا نحن وليس قضايا الآخرين، يجب أن يكون لنا أبطالنا الحقيقيون وليس أبطال الغرب المزيفين
والدعم لم يقتصر على مسؤولي الإذاعة والتلفزيون التركيين فقط، بل سجل المذيعون الأتراك أيضاً مواقف مشرّفة كما فعل مذيع قناة Haber türk، محمد أرسوي، عندما غضب من معدّ البرنامج الذي ارتكب خطأ على الشاشة، بعدما كتب "حي القدس التابع لإسرائيل"، فقال له المذيع "القدس ليست تابعة لإسرائيل أرجو من المعد تغيير الجملة فورا".
أمّا إذا أردنا أن نتكلم عن الصحف الإخبارية التركية، فسنرى ما يجري في غزّة معروضاً على صفحاتها الأولى، فكلّ الصحف الورقية تعمل بالتنسيق مع القنوات الإخبارية على كشف التلاعب الإعلامي من قبل إسرائيل، ونقل المشهد الحقيقي للمواطنين الأتراك، لأنّ القنوات والصحف الغربية قرّرت تغيير الحقائق ونشر الشائعات في القنوات والصحف والبرامج التلفزيونية حول العالم، ولكن الإعلام التركي لم يرضخ للإعلام الغربي، واستمر بتفنيد الأكاذيب عبر مركز مكافحة التضليل التابع لرئاسة الاتصال التركية.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إنّ البرامج الاجتماعية التركية أيضاً، دعمت القضية الفلسطينية مثل برنامج "من يريد أن يصبح ميلونيرا؟" وهو نسخة من البرنامج الثقافي "من سيربح المليون؟" ويعرض على شاشة قناة "atv" بشكل أسبوعي، حيث كان سؤال المليون ليرة تركية متعلّقا بفلسطين، وكان السؤال "ما هو الشيء الذي تحوّل إلى رمز لعلم فلسطين في المظاهرات بعد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ومنع المتظاهرين من رفع علم فلسطين؟" وكان من بين الخيارات البطيخ، وهو الجواب الصحيح بسبب تشابه ألوان البطيخ مع علم فلسطين.
وهاجم مقدّم البرنامج الممثل التركي الشهير، كنان إميرزالي أوغلو، إسرائيل خلال الحلقة، قائلاً: "جميع قلوب شعوبنا حزينة على ما يحدث في غزة، هذه مشاهد لا يمكننا تحمّل مشاهدتها، إنّ هذا الأمر يؤلم قلوبنا، وبدلاً من التدخل لوقف هذه الحرب، تحاول بعض الدول القوية والكبيرة معاقبة وطرد جميع الأشخاص الذين يحتجّون ضد إسرائيل، وما تفعله من إبادات جماعية على الضحايا الأطفال".
الإعلام التركي المعارض
لم يختلف الإعلام التركي المعارض هذه المرّة عن الإعلام التركي المؤيّد، إذ وقف إلى جانب غزّة ضد المجازر الإسرائيلية اليومية بحق الأطفال والشيوخ والنساء، وندّد كلّ رؤساء الأحزاب المعارضة التركية بجرائم إسرائيل، والبعض منهم رأى أنّ الدفاع عن فلسطين هو أمانة في أعناق الأتراك، والبعض دعا إلى إرسال الجيش التركي للدفاع عن غزّة، والبعض الآخر بدأ بجمع المساعدات المالية نصرة لأهل غزة، بينما عبّر آخرون غاضبين عن أنّ المواطنين الإسرائيليين غير مرحب بهم في تركيا إطلاقاً.
منصات التواصل الاجتماعي التركية
وإذا تكلمنا عن الإعلام، فيجب ألّا نهمل مواقع التواصل الاجتماعي، فهي الإعلام الجديد الذي يزاحم الإعلام التقليدي، بل وأصبح ينتشر بشكل أسرع من التلفاز بسبب ارتباط حياة الناس بالهواتف النقالة التي لا يُستغنى عنها في زمننا الحالي. وأعتقد أنّ موضوع غزّة، كان امتحاناً صعباً لكلّ مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب سياسات الخصوصية المزيّفة لهذه المواقع المسيّسة من قبل الغرب، حيث لا توجد منصة تواصل اجتماعي عملاقة واحدة تمثّل آراءنا وتطلعاتنا. وللأسف ما زلنا نستخدم منصات الغرب، ومن ثم نندب ونشكو عندما يحذفون منشوراتنا الداعمة لفلسطين، حيث كان موقف منصتي "فيسبوك" و"إنستغرام" صارماً بشدّة، فيما كانت منصة إكس (تويتر سابقا) ناجحة، ويعود ذلك إلى رفض صاحبها، إيلون ماسك، حذف المنشورات الداعمة لفلسطين، ووقف أمام ضغوط الدول الأوروبية التي طلبت منه تشديد سياسة النشر في موقع إكس، ليردّ بأنّ هدفه من شراء المنصة هو ترسيخ مفهوم الحرية، وليس العكس.
لم يرضخ الإعلام التركي للإعلام الغربي، واستمر بتفنيد الأكاذيب عبر مركز مكافحة التضليل التابع لرئاسة الاتصال التركية
وبالنسبة للإعلام الجديد في تركيا، فقد أبلى بلاءً حسناً، عن طريق بعض المنصات الشبابية التي زاحمت الإعلام التقليدي في دعم القضية الفلسطينية، مؤكدة أنّ الشباب التركي لم ولن ينسى قضية فلسطين كما يظنّ البعض. فعلى سبيل المثال، نجحت منصة GZT، في نقل ما يجري في فلسطين لكلّ الشباب التركي بكلّ حرفية ودقة، وأثبتت أيضاً مدى أهمية مواقع التواصل الاجتماعي في مثل هذه الأزمات.
أخيرا، نستطيع القول إنّ الحرب الإعلامية لا تقل أهمية عن الحرب العسكرية، فالإعلام هو الذي يؤثّر على عقلنا الباطن، بما يقرّر سلوكنا وأفعالنا لاحقاً، حيث أصوات المذياع وشاشات التلفاز وشاشات الهواتف تُحاصرنا في كلّ مكان، في البيوت، وأماكن العمل، والمواصلات العامة، لذلك عملت حكومة حزب العدالة والتنمية على مدى عشرين سنة على تطوير وتحسين الإعلام التركي بما يخدم قضايانا، وكي يكون متناغماً مع أفكارنا. ولأنّ الإعلام يجب أن يكون عاكساً لقضايانا نحن وليس قضايا الآخرين، يجب أن يكون لنا أبطالنا الحقيقيون وليس أبطال الغرب المزيّفين.
وفي النهاية، أستطيع القول: "قلْ لي ماذا تشاهد، أقلْ لك من أنت".