موسيقى فارسيّة

30 ديسمبر 2023
+ الخط -

المطر لا ينهمر الآن، لكنّه سينهمر بعد قليل. لست ملاكًا عارفًا بأسرار الغيب لأجزم بذلك، سوى أنّ السّماء رماديّة والغيوم كبيرة ومتكاثفة، وأنا أسمع الآن موسيقى فارسيّة في غرفتي وأقرأ شوبنهاور، ممّا يؤكّد لي أكثر أنّ المطر سينهمر بغزارة هذا المساء.

كلّما قرأت شوبنهاور منذ سنوات طويلة تهاطل المطر من السّماء البعيدة بغزارة حتّى يصل إلى هذه الأرض الأبعد.

حبّات المطر بمجرّد ما تمسّ سطح الأرض تنهض بشكل بدهيّ وتتحوّل كلّها إلى فقراء ينتشرون في الأرض شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا وإلى أعلى وإلى أسفل.

حبّات المطر هي أرواح الفقراء عبر كلّ الأزمنة والأمكنة، الأحياء منهم والأموات، وأيضًا الّذين ما زالوا في دفء الأرحام والأحلام والأوهام وظلام الغيب.

كلّ حبّة مطر هي روح فقير واحد على الأقلّ. نفس العدد من حبّات المطر يتساقط فوق الأرض كلّ سنة، ثمّ يصعد إلى السّماء على شكل أرواح فارقت الأجساد الهزيلة كي ينزل في سنة أخرى على شكل ماء زلال، وهكذا إلى ما لا نهاية..

إنّها عمليّة حسابيّة بسيطة، لا يحتاج فهمها إلى التّعمّق في علم الجبر والهندسة والإلمام بأسرار الأعداد وتعقيدات الجداول وطلاسم الفلكيين، بل ببساطة شديدة: عدد حبّات المطر ما هو إلّا تحصيل حاصل تحويل الماء كلّه العالق في الكون إلى حباّت صغيرة، لكلّ حبّة منها حجم دمعة.

كلّ حبّة مطر هي روح فقير واحد على الأقلّ. نفس العدد من حبّات المطر يتساقط فوق الأرض كلّ سنة، ثمّ يصعد إلى السّماء على شكل أرواح

الإنسان هو الآلة الحاسبة للمطر بعيونه، حين يبكي أو حين يضحك إلى حدّ البكاء، يكون يحسب عدد حبّات المطر في السّماء، بالتّالي: عدَدَ أرواح الفقراء في كلّ مكان وزمان، ونتيجة الحساب تكون كل مرة دقيقة جدًّا.

مهمّة الإنسان الحقيقيّة الوحيدة على هذه الأرض ليست سوى عدّ حبّات المطر عبر عيونه مند بدء الخليقة حتّى نهايتها..

كم شخصًا بكى منذ أولّ مخلوق دبّ على هذه الأرض، وكم شخصًا سيبكي حتّى يبكي آخر شخص سيدبّ عليها ناعيًا الجميع بآخر دمعة، أو ضاحكًا بهستيريا على الجميع، إلى درجة أنّ عينه تدمع من الفرح بالنّهاية. ذلك هو نفسه عدد حبّات المطر السّنويّ الّذي يصعد إلى السّماء وينزل منها كحارس عمارة يصعد إلى الطّابق الأخير كلّ ساعة وينزل، ثمّ يصعد وينزل في السّاعة الّتي تليها، متفقِّدًا كلّ الطّوابق أثناء صعوده و نزوله إلى ما لا نهاية..

في الشّتاء ينزل الفقراء مع المطر من السّماء إلى الأرض كي يسقوا أراضيهم الّتي زرعوها، ويطعموا مواشيهم، وينجبوا أطفالًا يجب أن يكون عددهم هو بالضّبط نفس عدد الأطفال الّذين ماتوا في سنوات وحيوات أخرى سواء ماضية أو ما تزال مقمّطة في الغيب.

وفي الصّيف يعودون إلى السّماء مع البخار مُخْلِينَ بيوتهم وحقولهم وزوارق صيدهم وقبورهم لفقراء آخرين أوفر حظًّا..

أقرأ الآن شوبنهاور بصوت مرتفع، جمعت كلّ شيء في حقيبة صغيرة ووضعت الحقيبة قرب الباب. 

قبضة مطريّتي معقوفة كعكّازة الإمبراطور. 

أنتظر فقط أن يبدأ المطر بالتّهاطل بغزارة كي أخرج وأغلق الباب إلى الأبد خلفي، تاركًا هذه الموسيقى الفارسيّة الباطنية القارسة تتكرّر في روح فيزياء الغرفة إلى ما لا نهاية..

في عربة القطار البخاريّ البطيء سأكمل قراءة شوبنهاور بلذّة، وبين فينة وأخرى سأتأمّل من النّافذة كيف تنهض حباّت المطر كلّما لامست الأرض، لتتحوّل بقوّة الشّعر والخيال إلى فقراء، يبدؤون مباشرة بالحياة والانتشار في الأرض، متراجعين كلّهم إلى الوراء، بينما يتقدّم بي القطار إلى السّماء بشاعريّة داخل الموسيقى، لأصير دمعة..

 

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.