حين تنتقم العصافير
أعزب ووحيد. عمره قفز فوق الخمسين، مثلما قد تقفز امرأة بدينة من ضفّة ساقية إلى ضفّتها الأخرى، غارسة قدمها في الوحل.
كلّ عصافير الدّوريّ تعرفه، كأنّه شجرة الحيّ الوحيدة، أو أنّه شقّ واضح في الجدار. لا أحد يطرق بابه في العيد، ولا في الأيّام العاديّة. حين يكون مضطجعاً على ظهره فوق سريره، عاقداً يديه خلف رقبته، للرّاحة، يصل إليه صخب الأطفال متقطّعاً ومشوّشاً، آتياً في تموُّجاتٍ مشوّهة من الزّقاق. أحياناً يعلو الصّخب وترتفع الضجّة حين يقتربون أكثر من البيت قبل أن يبتعدوا ثانية كسرب الدّوريّ في الظّهيرة.
على كلّ حال هو ليس له أطفال فلا ينتبه لذلك الصخب ولتلك الضجّة، مثلما لا ننتبه لتكتكة ساعة الجدار الكبيرة.
يقذفون الكرة عالياً أحياناً فتعبر الشّرفة وتتدحرج أمامه دحرجة لذيذة قبل أن تصطدم بجدار أو بفردة حذاء لتسكن أخيراً فتتّضح خطوطها ومربّعاتها وألوانها الزّاهية.
يقفون في الأسفل رافعين وجوههم إلى السّماء كأنّها ستمطر، يلتقط الكرة ويطلّ عليهم من البلكون ببّيجامة مخطّطة وشبشب على شكل أرنب في قدميه.
يبدو طويلاً أكثر من هناك، والكرة صغيرة في يده، وثقوب أنفه واسعة وبارزة تطلّ منها شعيرات طويلة.
هكذا يبدو لهم من الأسفل فيترقّبون جامدين دون حركة سوى النّظر والوجوم. يكحّ بجديّة، يثني كمّيه ببطء شديد وعنجهيّة مصطنعة، ثمّ يمثّل بحزم أنّه سيقذف الكرة بعيداً جدّاً بقدمه، فيقذف فقط الهواء رافعاً أرنب قدمه حتّى السّقف، مخطئاً الكرة عمداً، وأنّه - يعني - تعثّر وكاد يسقط من الطّابق الأوّل حتّى الأرض لولا الحظّ ورعاية الله، والشّبشب يسقط فوق رأسه، فيقهقه الأطفال قهقهة جماعيّة، وبعضهم يسقط أرضاً بسبب الضّحك، ويتمرّغ في لعابه حتّى يغرق فيه ويختفي دون أن ينقذه رفاقه.
يقذف إليهم الكرة بيده فيتسابقون نحوها كجراء سلوقيّة رأت أرنباً. يدلف إلى المطبخ مجرجراً أرنبي قدميه ليسخّن الشّاي.
كلّ صباح يضع الزّرع فوق صفيحة مستطيلة، والماء داخل قارورة أسطوانيّة صفراء بسدّادة خضراء مفتوحة من الوسط كحافة مجرفة، فتأتي كلّ عصافير الدّوريّ لتفطر في بيته، إنّه: مطعميّ طيور من الطّراز العالي منذ سنوات طويلة.
عوض أطفال ينجبهم ويرسلهم كلّ صباح إلى المدرسة يطعم عصافير الحيّ المزعجة فتتكاثر أسرع وتهاجم الجيران، تأكل الأطفال الغافلين، والدَّجاجَ الّذي يسرح فوق السّقوف، وتنقر العمارات العتيقة حتّى تتصدّع أساساتها وتسقط، وتنكش الطّرقات حافرة فيها حفراً عملاقة تتسبّب في حوادث سير خطيرة أغلبها يقتل أسرة بأكملها إلّا السّائق، هو الوحيد الّذي ينجو دائماً، ليحكي ما حدث.
بسبب تلك العصافير انقلبت حياة النّاس رأسا على عقب، وهو من كان يطعمها ويحرّضها بالصّفير..
أخيراً قطّة الجارة الحامل ستلد بعد يوم أو يومين، وابنتها ذات الضّفيرتين والأسنان النّاقصة والصّندل البرتقاليّ والمريلة الدّائرية المزيّنة برسوم كرزات وعدته أن تهبه قطّة. تهلّل وجهه إلى حّد أنّ عينيه جحظتا بهجةً، وجفّ حلقه، وتسارعت نبضاته، وحاصره الفرح بالبنادق في غرفة النّوم، واغتصبته السّعادة فوق سريره المحشوّ بريش العصافير، وخنقه السرور بالوسادة الطّويلة..
وجدوه ميّتاً حين جاءت الطّفلة لتطرق بابه ذات صباح وفي يدها قطّة مغمضة العينين تحملها من ظهرها وهي تموء مواء مسترسلاً لجوجاً كابنة المتسوّلة وتخمش الهواء خمشاً متواصلاً والطّفلة تصرخ:
عمّي.. عمّي.. افتح الباب.. لقد أصبحتَ جدّاً.... لقد أصبحتَ جدّاً..
لكن، لا أحد فتح الباب.
جاءت الشّرطة والمطافئ، حملوا جثّته الهامدة على عربة ألمنيوم طويلة ذات أربع أرجل منتهية بعجلات صغيرة، ثمّ شمّعوا الباب.
حملوا العربة بصعوبة بين الأدراج، ثم دفعوها ابتداء من باب العمارة وسط حشود غفيرة وصخب الفضوليّين. أدخلوها من الخلف في سيّارة حمراء طويلة بعد أن ثنوا أرجلها إلى الخلف مثلما يثنى سكّين.
أخذوه بسرعة إلى المشرحة البعيدة كي يعرفوا الحقيقة كاملة. قال النّاس: إنّ العصافير هي الّتي قتلته، انتقمت منه، لأنّه أراد أن يربّي قطّة، انتقمت منه كما قد تنتقم من فزّاعة، وذلك من حقّها كما قالوا خائفين منها، ملتمسين لها أعذاراً مقنعة..
كانت السيّارة الطّويلة ذات الطّلاء الأحمر الجديد تبتعد به هادرة عبر شارع مقفر، بعيداً عن العمران، وكانت أسراب الدّوريّ تتبعها أينما ذهبت، وبعضها حطّ فوق سقف السيّارة ليستريح..