مهارات الجسد

14 يونيو 2023
+ الخط -

يولد الإنسان وهو لا يعرف كيف يستعمل جسده؟ لا يعرف ما الذي سيفعله بيديه ورجليه؟ لا يعرف كيف يستدير أو يتقلّب؟ لا يعرف كيف يتحرّك؟ كيف يقف، يمشي، يجلس، يتنقل، إلخ؟ فيكون بذلك النحو أقرب إلى الوضعية النباتية منه إلى الوضع البشري، حيثما يُوضع يَمكث، حتى إذا هُجِر هلك في موضعه. عدا ذلك، أمامه زمن طويل ليتعلّم كيف يستعمل إمكانيات جسده لأجل أن يتحرّك، يتنقل، يستعمل الأشياء من حوله، وفي النهاية لأجل البقاء والنماء.

يخرج الإنسان إلى الوجود بجسدٍ مُبرمج على الحركة، لكنه لا يعرف كيف يحرّكه؟ فيظلّ الرضيع يركل بيديه ورجليه على نحو عشوائي واحتفالي، في أفق أن يكتسب المرونة المطلوبة، ويكتمل وعيه بجسده، قبل أن يتمرّن على استعماله في مسار طويل.

هو الركل نفسه الذي كان يمارسه في أيامه الأخيرة داخل الرحم، كتعبير جسدي عن إرادة الحياة. على المنوال نفسه يعاود بعد ولادته الركل في كلّ الاتجاهات، وهو ما يزعج الكبار، والذين قد يلجأون إلى القماط الذي تبنته كثير من المجتمعات التقليدية لأجل تكميم الجسد بأكمله، من أسفل الرأس إلى أسفل الركبتين. وهكذا كان الأمر، بين القماط والكفن يعيش الجسد في سراح مؤقت ومشروط أيضا.

رغم المعيقات يصرّ الرضيع على اكتشاف ممكنات جسده، فيطوّر مهاراته بنفسه وبفعل قوة الحياة نفسها. حيث يتعلّم كيف يستعمل عنقه لكي يدير رأسه بالمقياس المناسب؟ كيف يستعمل يديه لكي يمسك الأشياء بالشكل المناسب؟ كيف يستعمل ركبتيه ويديه لكي يحبو بالتتابع المناسب؟ كيف يستعمل خصره لكي يجلس بالتوازي المناسب؟ كيف يستعمل ساقيه لكي يقف بالتوازن المناسب؟ ثم كيف يمشي، يجري، يقفز، يلتفت، ينحني، إلخ؟ ثم كيف يسوق الدراجة؟ كيف يسبح؟ كيف يعزف على البيانو؟ كيف يرقص؟ وفي النهاية كيف يحرّك جسده بسيولة وانسياب، وبما يعبّر عن ممكنات الجسد البشري.

بين القماط والكفن يعيش الجسد في سراح مؤقت ومشروط

عندما يشتدّ عوده يشعر الطفل بأنه مخلوق لكي يتحرّك في كلّ الاتجاهات وبكيفيات لامحدودة، فيشرع في اكتشاف إمكانيات جسده اللامحدودة بشغف احتفالي قد يزعج الكبار كما هي العادة، فتصبح المهمة الأولى لمجتمع الكبار تقييد جسد الطفل مرة أخرى، ذلك المسار الذي قد يبدأ مبكراً بالقماط، وهو الإجراء نفسه الذي تواصله بعض مؤسسات التعليم في إصرارها على تربيع الأيادي.

ما أن يدخل الطفل إلى المدرسة، سواء التقليدية أو العصرية، حتى تبدأ سيرورة تقييد الجسد، حيث يواجه الدرس الأول والأصعب، والذي يلازمه مدى الحياة المدرسية، حيث عليه أن يمكث في المكان نفسه، على المقعد نفسه، لأطول مدة ممكنة، وذلك ضد طبيعة الجسد البشري.

الجسد البشري كائن حي غير عادي، خارق إلى حدّ بعيد، إنه أكثر الموجودات بعداً عن الجمادات، فهو يلين دون أن يكون سائلاً، وفي ليونته يكمن ذكاؤه، وهو ينساب دون أن يكون غازاً، وفي انسيابه يكمن ذكاؤه، وهو يفكر دون أن يكون روحاً، وفي تفكيره يكمن ذكاؤه، إنه أقرب الأشياء إلى الأرواح، بل إنه كائن روحاني بامتياز. هنا بالذات يكمن مغزى مقولة الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا: "لا أحد يعرف ما الذي يستطيعه الجسد".

لذلك يستمر الجسد الرياضي في إذهالنا، طالما لا يكفّ عن مفاجأتنا بوجود إمكانيات لم يتم استنفادها بالكامل، ما يعني أنّ إمكانيات الجسد البشري تظلّ غير محدودة بالفعل، وبحيث يكون المطلوب منّا أن نتيح له فرصة التعبير عن إمكانياته، وبالتالي عن انفلاتاته الممكنة.

 الجسد... أكثر الموجودات بعداً عن الجمادات، فهو يلين دون أن يكون سائلاً، وفي ليونته يكمن ذكاؤه، وهو ينساب دون أن يكون غازاً، وفي انسيابه يكمن ذكاؤه

مؤسف أننا لم ندرك بعد أنّ مكوث الطفل لساعتين أو أكثر جالساً في الوضعية نفسها، بدعوى التمدرس، يمثّل جريمة في حق الجسد، جريمة في حق الطفل، وجريمة في حق الإنسانية، طالما يتعلّق الأمر بالجسد البشري، والذي هو أبعد الموجودات عن الجمادات. الأطفال المتمردون هنا هم الذين يمتلكون الحق. علينا أن نعترف بذلك!

أن يمكث الجسد طويلاً في المكان نفسه، تلك هي الإعاقة التي تطلبها مؤسسات العمل والإنتاج أيضاً، ولا سيما أنّ كثيراً من الوظائف الحديثة تعتمد على الكرسي. غير أنّ الجلوس طويلاً على الكرسي قد يؤدي إلى تبلّد الجسد، طالما من طبع الإنسان أن يفكر بجسده. وقد كان الفيلسوف الألماني نيتشه أول من أوضح المعادلة بحدس ثاقب. 

غير أنّ خفض حركة الجسد الذي يُسبّب الترهل والغباء، من شأنه أن يسبّب الشقاء أيضا. فمن مصادر الشقاء البشري انخفاض حركة الجسد في الوقت الذي خُلق فيه الجسد لكي يتحرّك كلّ يوم، وبكل الكيفيات الممكنة. هنا يكمن مغزى المقولة العميقة لنيتشه: "لا أستطيع أن أؤمن إلا بإله قادر على الرقص". وذلك هو "السر" الذي سبق أن أدركه مولانا جلال الدين الرومي، بطريقته، أسلوبه وإبداعه.

النصّ جزءٌ من مدوّنة "الفلسفة والناس" التي تتناول نصوصًا حول الأفكار الفلسفية، لكن بطريقة مبسّطة عبر استعراض أمثلة من حياة الناس وتجاربهم.
سعيد ناشيد
سعيد ناشيد
سعيد ناشيد
باحث مغربي في الفلسفة والإصلاح الديني، ورئيس مركز الحوار العمومي والدراسات المعاصرة (الرباط). صدر له عدد من الكتب، منها "التداوي بالفلسفة"، و"دليل التدين العاقل"، و"قلق في العقيدة" و"الوجود والعزاء". له مساهمات في بعض المؤلفات الجماعية، من بينها: كتاب بالإنجليزية تحت إشراف المستشرق البريطاني ستيفن ألف، بعنوان Reforming Islam:Progressive Voices From the Arab Muslim World، 2015.
سعيد ناشيد