الأمن الروحي وشجاعة الرّوح
سعيد ناشيد
يحتاج الأمنُ الرّوحي إلى قدرٍ من الشجاعة الرّوحية. ما معنى ذلك؟
إذا كان الأمنُ يتحقّق بزوالِ الخوف، فإنّ الخوف لا يزول إلّا بتحقُّق أحد الشرطين: إمّا انتفاء موضوع الخوف أو امتلاك الشجاعة.
حين يقع البحارةُ في قلبِ العاصفة، فإنّ الشعور بالأمنِ يتحقّق بأحدِ الشرطين، إمّا انتهاء العاصفة أو امتلاك الشجاعة.
انتفاء موضوع الخوف غير ممكن دوما طالما أنّ الحياة تتقاذفها العواصف على الدوام.
رغم انتصارنا على الوحوشِ والحشرات السامة وكثير من الأمراض الفتاكة، إلّا أنّ بيئتنا لا تزال في مجملها غير آمنة. فقد ساهمتْ العولمة في عولمةِ المخاطر، وأظهرت الفيزياء الكونية أنّنا نعيشُ في كونٍ أقرب إلى حالةِ الفوضى غير الآمنة منه إلى حالةِ النظام الآمن، أقرب إلى حالةِ الكاووس منه إلى حالةِ الكوسموس، ما يجعل شجاعة الوجود مطلوبةً اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
وفق معادلة أبيقور، فإنّ المعرفة تُحرّر الإنسان من الخوف. هذا صحيح طالما أنّنا لا نخاف إلّا من المجهولِ، المظلمِ، المخفيِّ، اللّامتوقع. لا نخاف إلّا مما لا نعرف. لأجل ذلك لم نعدْ نخاف من صوتِ الرعد منذ اكتشفنا طبيعته. لكن المفارقة اليوم أنّ نتائج المعرفة العلمية بقدر ما تزيد من معرفتنا ببنية الكون، فإنّها تزيد من حجمِ المجاهل بنحوٍ مُضاعف، كما لو أنّنا نكتبُ على سبورةٍ سحرية، كلّما ملأنا منها شبرًا كبرت شبرين أو ثلاثة، كما لو أنّ المعلوم يعيدُ إنتاجَ المجهول بحجمٍ أكبر، فيما يشبه الحلقة المفرغة، ومن يدري؟ ربّما في طريقنا إلى معرفةِ كلّ شيء قد ننتهي إلى عدم معرفة أيّ شيء.
انتفاء موضوع الخوف غير ممكن دوما طالما الحياة تتقاذفها العواصف على الدوام
بفعلِ المعرفةِ العلمية اليوم اتسعتْ مجاهل الكون، من الفراغ الطاقي، إلى الطاقة السوداء، والمادة المظلمة، ثم فرضيات الأوتار، والأكوان الموازية، وهكذا دواليك، كما لو أنّ كلّ سرٍّ ينكشف إلّا ويلدُ أسرارًا أكبر منه. فكيف يمكننا امتلاك شجاعة الوجود وسط كونٍ مقذوفٍ به نحو غياهب المجهول؟
ذلك هو السؤال الفلسفي المُوازي لكشوفاتِ الفيزياء الكونية اليوم.
أن ننعم بالأمن الروحي ليس معناه أن نعيش في بيئةٍ آمنة، فهذا مُحال طالما الوجود حرب نعيش فيها تحت القذائف وفوق الألغام. يكفي أن يؤلمك ضرسك وأنت في أحدِ أجمل شواطئ المالديف، أو تتلقى رسالةً صوتية غير سارة وأنت في جزيرة بالي، حتى تسمع طنين الحرب في أذنيك، فماذا بقي لك بعد ذلك؟ بقي لك أن تمتلك شجاعة الوجود حيث أنت.
إذا لم تمتلك شجاعة الوجود فلن تشعر بالأمان في أيّ مكانٍ من الأرض أو السماء، ولن تتعلّم أيّ جديدٍ في العوالم التي قد تزورها، كما لن تكتسب أيّ مهارة في أيّةِ تجربةٍ قد تخوضها، وستعيش في حالةِ خوفٍ وسواسي من كلِّ شيء، حتى ولو امتلكت آخر نتائج العلوم.
كما لا ينبغي أن ننسى أنّ الخوف الوجودي هو المزاج المناسب لتغلغلِ ثقافة التطرّف وسياسات التسلّط والاستعباد، مثلما يحدث حتى لبعض الأوساط العلمية أحيانا.
لقد تعرّفتُ إلى متطرّفين سابقين استفادوا من إجراءاتٍ للمصالحة، ثم منحتهم دولهم أموالًا للاستثمار، لكنهم سرعان ما فشلوا، فعاد بعضهم إلى دائرةِ الابتزاز مجدّدا.
الخوف من الحياة يعني الخوف من حساسيات الجسد، من متعة الحواس، من جموح الخيال، وبالتالي من الذات بالذات
قد تسألني، أين المشكل؟
هكذا أجيبك: من يفتقد شجاعةِ الوجود يفشل في كلّ شيء، وحين تنقصه المروءة فسيلقي باللائمة على غيره.
من لا يمتلك شجاعة الوجود، سيكون ادعاؤه للشجاعة في بعضِ المواقف والأحوال مجرّد جبنٍ بأقنعةِ التهوّر، مجرّد اندفاع انفعالي مجاني، بل، أو بالأحرى، حتى إن بدتْ بعض ضرباته شرسة بالفعل، فإنّها من باب المثل المغربي الذي يقول، "احذروا ضربة الخواف".
من لم يمتلكْ شجاعة الوجود لن يجرؤ على استعمالِ عقله، وفق وصية كانط الشهيرة، لأنّ البحّار الذي لا يمتلك شجاعة مواجهةِ العواصف لن يواصل إمساك دفّة القيادة برجاحةِ العقل ورصانةِ الموقف.
من لم يمتلكْ شجاعة الوجود لن يستمتع بالحياة وفق وصية أبيقور الشهيرة، لأنّ الذي يخاف من الارتفاع لا يمكنه أن يستمتع بالرؤيةِ الشمولية للمشهد.
من لم يمتلك شجاعة الوجود فلن يجرؤ على الشكِ في قناعاته، ولو مرّة واحدة وفق وصية ديكارت الشهيرة، لأنّ الخائف من الليل سرعان ما يبحث عن الأمان في الأحلام.
من لم يمتلك شجاعة الوجود فلن يحقّق ذاته كما يُوصي الرواقيون، مونتين، ونيتشه، لأنّ الخوف من الحياة يعني الخوف من حساسيات الجسد، من متعةِ الحواس، من جموحِ الخيال، وبالتالي من الذاتِ بالذات.
من لم يمتلك شجاعة الوجود، يستيقظ بصعوبة، يتحرّك بصعوبة، يفكر بصعوبة، يتعلم بصعوبة... غير أنّه يشيخ بسرعةٍ ويذبل قبل الأوان
هناك كثير من الشجاعة في أن تكون أنت كما أنت، تُواجه الناس بوجهٍ مكشوف، ولا ترتدي أيّ قناعٍ من الأقنعة، فإنّ الأقنعة كلّها مجرّد حياةٍ كاذبة.
هناك كثير من الشجاعة في أن تعيش بوجهٍ واحد، يظلّ هو هو في السرِّ والعلن، وفي السرّاء والضرّاء، ولا تحتاج معه إلى وجهٍ آخر، فإنّ كثرةَ الوجوه ليست سوى حياةٍ كاذبة.
هناك كثير من الشجاعة في أن تعيش بصدقٍ، وتتعلّم بصدق، وبالتالي تنمو بكلِّ صدق.
هناك كثير من الشجاعة في ألّا تتصرّف وفق توقعات الآخرين، فمعظمُ التوقعات آمال كاذبة.
هناك كثير من الشجاعة في ألّا تتوقع من الآخرين أيّ شيء، فمعظمُ التوّقعات رهانات خاسرة.
هناك كثير من الشجاعة في أن تتقبّل عبارة "إنّها مشكلتك" عن طيبِ خاطر، طالما أنّها الحقيقة.
قد تبدو لك عبارة "إنها مشكلتك" مُخيّبة للآمال حين تُقال لك في مواجهةِ مشكلاتك، لكنّها الإجابة الأكثر صدقًا ونزاهة، وهي لا تبدو لك قاسية إلّا لأنّك تتوقّع أن يكون هناك من يفهمك أكثر منك. وهذا محال في كلِّ الأحوال.
معنى العبارة، أنّك وحدك المؤهل لكي تحلّ مشكلتك طالما أنّها مشكلتك، وطالما أنّك أنت.
قد يساعدك الآخرون بقدر ما يملكوا من رحمةٍ ومقدرة، لكنهم لن يقدروا على حلِّ مشاكلك عوضًا عنك. ذلك أنّ ذاتك لا تشبه أيّ ذاتٍ أخرى، حياتك لا تشبه أيّ حياةٍ أخرى، وبناء عليه كلّ مشكلة تطرق بابك ستكون مشكلتك أنت بالذات.
من لم يمتلك شجاعة الوجود، يستيقظ بصعوبة، يتحرّك بصعوبة، يفكر بصعوبة، يتعلم بصعوبة، ينمو بصعوبة، ويكبر بصعوبة، غير أنّه يشيخ بسرعةٍ ويذبل قبل الأوان.
وهكذا يمكنني أن أقول لك:
الشجاعة الحقيقية هي شجاعة أن تواصل الحياة بكلِّ احتمالاتها، شجاعة أن تستيقظ كلَّ صباحٍ بنيّةِ أن تُواجه حياتك اليوميّة بكلِّ ما لها وعليها، وأن تتحمّل ضرباتها بروحٍ رياضية، وبالتعويل على هامشِ المناورة.