لماذا نحبُّ؟
سعيد ناشيد
طالما الحياة تهتمُ بالتناسل حصرًا، وطالما التناسل مُمكن بدون قِصص الحبّ، فما الحاجة إلى تفاصيل تتطّلب جهودًا مُضنية في مراعاةِ حساسيّاتِ الكلمات، هشاشة الأحاسيس، تقلّبات المزاج، مع عدم نسيان الأرقام والتواريخ والمواعيد التي لا يجوز نسيانها!؟
إذا كان الدافع البيولوجي الذي يوجّهنا نحو الجنس يسعى إلى التناسل والتكاثر ودوام النوع البشري تبعًا لمشيئة الحياة، وإذا كان الجنس بلا حبٍّ ممكنًا في كلِّ الأحوال، بل ممكنًا حتى حين تطغى الكراهيّة كما يحدث في تجارب الاغتصاب والسبي والتحرّش، فلماذا نصرّ على ربط الجنس بالحبِّ ولو في مستوى النموذج الذهني الذي نحتفظ به في عقولنا؟
لماذا الحبّ؟
هناك ثلاثة أجوبة مُستوحاة بنحوٍ نسبّيٍ من المقاربة التطوّرية لأرثر شوبنهاور، قد تكون غير كافية لكنّها أساسيّة لبناء الفهم:
الإجابة الأولى، الحبُّ حيلةٌ تطوّرية للطبيعة من أجل تحسينِ النسل البشري: امرأة قصيرة القامة ستفضّل في الغالب رجلًا أطول منها بفارقٍ ملحوظ، والعكس صحيح. كما أنّ رجلًا بعينين جاحظتين، أو أنف طويل أو أفطس بنحوٍ ملحوظ، أو أذنين مطويتين إلى الأمام، أو نحو ذلك، لن يفضّل في الغالب امرأةً بالمواصفاتِ نفسها، والعكس صحيح. الخلاصة أنّ الانجذاب فرصة لاواعية لتعديل بعض الاختلالاتِ الفيزيولوجية، ومن ثم تتجه سيرورة التطوّر البشري نحو تحسين النسل.
إنّ سؤالَ الحبِّ هو على الدوام سؤال اللغز المحيّر: لماذا تلك المرأة بالذات؟ لماذا ذلك الرجل بالذات؟
الإجابة الثانية، خلاف سائر الحيوانات الأخرى، فإنّ الإنسان العاقل عاقل بما يكفي لكي يدرك أنّ الإنجاب يكلّف ثمنًا باهظًا في مستوى الصحة وراحة البال وتدبير الموارد. لذلك، ولكي يقبل بمواصلة التزاوج، فإنّه يحتاج إلى فخٍّ أشدَّ إغراء من الدافع الجنسي، والذي تسهل مقاومته، كما يمكن تدبيره على انفراد. الحبُّ هو ذلك الفخ المغري الذي صنعته الحياة الذكية على مقاسِ الإنسان العاقل حتى يفقد عقله ويُواصل التزاوج.
الإجابة الثالثة، يُخزّن الرجل في ذاكرته الجنينية سلوكَ الصيّاد الذكر البدائي الذي يضع سائله أينما ذهب بدون أيّ التزاماتٍ في الرعاية والعناية والحماية، ولذلك فإنّ الحبّ هو الفخ الذي صنعته الحياة من خلال المرأة لكي يستقرّ الرجل في مكانٍ ما، قرب رحمٍ ما، قرب بئرٍ ما، ومن ثم تنشأ الحضارة.
غير أنّ هذا كلّه لا يفسّر الحبّ، حتى وإن كان يفسّر درجةً عاليةً من الانجذابِ الجنسي.
الانجذابُ الجنسي، حتى عند حاجتنا إلى تعديل اختلالاتنا الفيزيولوجية أثناء التناسل، يضعنا أمام خياراتٍ واسعة، غير أنّ الحبّ يضعنا أمام خياراتٍ ضيّقةٍ، بل كثيرا ما يضعنا أمام خيارٍ واحد، وقد لا يوفّر لنا أيّ خيار إن لم يسعفنا الحظ. لا يمكنني أن أقع في حبِّ كلِّ امرأةٍ تصحّح اختلالاتي الفيزيولوجية، بل هناك معايير "خارقة" تضيّق لائحة الخيارات، وتجعل لقاء الحبّ فرصة نادرة، أقرب إلى هديّةٍ من السماء.
إنّ سؤالَ الحبِّ هو على الدوام سؤال اللغز المحيّر: لماذا تلك المرأة بالذات؟ لماذا ذلك الرجل بالذات؟ الميلُ الجنسي يترك لي خياراتٍ واسعة في كلِّ اللحظات، غير أنّ الحبَّ يضعني بنحو دراماتيكي أمام انتقاءٍ واحد، نهائي، وقد يكون الأخير، أو على الأقل سيبدو لي الأمر كذلك إلى أجلٍ غير مسمّى.
من أيِّ ضلعٍ من الجسد ينبع دافع الحب؟
إن كان الإنسان قد ورث الدافع الجنسي عن المرحلةِ الحيوانية، فإنّ إعمال مبدأ الانتقاء في اختيار الشريك الجنسي لدى كثير من الفصائل الحيوانية، ضمنها الإنسان، يمثّل إحدى البذور الكامنة لفكرة الحبّ، لكنّها لكي تزهر فقد تطلّب الأمر آلاف السنين من الثقافة واللغة والفن والأدب ولعنة تطوّر الوعي بالذات.
تلك البذرة هي التي تفسّر أنّ الاشتهاء الجنسي، ولو في فردوسٍ مليءٍ بالفاتنين والفاتنات، لا يتحقّق إلا من خلال التركيز الاستحواذي على شخصٍ بعينه، شخص له ملامح متفرّدة، ونظرة خاصة، ونبرة صوت مميّزة. قد تتفرّج يا سيّدي على استعراضٍ إغوائي لأجسادٍ نسائيّةٍ، وقد تتفرجين يا سيّدتي على استعراضٍ إغوائي لأجسادٍ رجاليّة، وفي الحالتين لن يمضي وقت طويل قبل أن تقع في فخّ التركيز الاستحواذي على جسدٍ محدّد، ومن ثم قد تضطر إلى دفعِ مزيدٍ من المال، أو بذل مزيدٍ من الجهد اللغوي. طيّب، أنا هنا لا أناقش المبدأ الأخلاقي الذي قد يعترض باسم الأديان، أو العدالة الاجتماعية، أو الكرامة الإنسانيّة، بل أستثمر الوضع كما هو لأجل فهم كيفيّة اشتغالِ غرائزنا.
كلّما اتسعت الحريّة ضاقت الخيارات
حتى وسط مئات الأجساد الفاتنة لا يتحقّق الإغراء إلّا بالتركيز على جسدٍ محدّدٍ، ولو لفترةٍ محدودةٍ قد تترواح بين عدّة دقائق أو عدّة شهور. وهذا ما يفسّر أنّك في حالةِ وقوعك في إغراءٍ حاد فإنّك لا تستطيع أن تغيّر الوجهة بسرعةٍ مع يقينك بأن لا فرق في المكافأة. كثيرٌ من الحروبِ الطاحنة نشأتْ بين الذكور على هذا الأساس، سواء في ممالك الحيوانات، أو في مملكة الإنسان قبل نشوء الحضارة.
داخل مبدأ الاستحواذ الإيروتيكي نفسه تكمن بذرة الحبّ، إلا أنّها بذرة لا تكفي لظهور فكرة الحبّ طالما أنّ التركيز الاستحواذي يحافظ مبدئًيا على خياراتٍ عديدة، وبحيث يمكن تعديلها بعد أن يتغيّر المزاج، هذا في الوقت الذي يمثّل فيه الحبّ نوعًا من التثبيت الإيروتيكي والدراماتيكي أيضا، على طريقة هو أو لا أحد/ هي أو لا أحد/ هو إلى الأبد/ هي إلى الأبد.. ثم ماذا بعد؟
تعلُّق الأنثى بذكر بعينه، وتعلّق الذكر بأنثى بعينها، باعتباره النصف الثاني، أو توأم الروح، فكرة حديثة العهد نسبيًا
تعلُّق الأنثى بذكرٍ بعينه، وتعلّق الذكر بأنثى بعينها، باعتبار النصف الثاني، أو توأم الروح، فكرة حديثة العهد نسبيًا، نشأت مع تطوّر الوعي بالذات في عصرِ الملاحم والبطولات والفروسيّة، ثم تطوّرت مع ولادةِ الفرد انطلاقًا من مبدأ المسؤوليّةِ الفرديّةِ في الحساب الأخروي داخل معظم الديانات، ووصولًا إلى الحقوق والحريّات الفردية داخل الحداثة.
قديمًا كانت العلاقات العاطفية متروكةً لتدبير القبيلة، العشيرة، العائلة، الأسرة، أو المشيئة الإلهية في آخر المطاف، وكان بوسع المرء أن يأخذ توجيهًا مباشرًا من الأب، أو الأم، أو رؤيا في المنام، أو علامة من السماء. وقتها كانت الخيارات واسعة، لكن لم تكن هناك فسحة كافية للحب.
أمّا وقد صار الفرد اليوم متروكا في خياراته العاطفيّة، فإنّه قلِق لأجل ذلك، خائف، حائر، تائه، وبقدر ما تتسع حريّة الاختيار لديه تضيق خياراته في المقابل. لذلك يحنُّ بعض الناس إلى عصر الحريم، ويلوذ آخرون إلى وكالاتِ التعارف، والتي تشبه وكالات الأسفار.
على أنّ القلق العاطفي للفرد المعاصر عمومًا، وللمرأة المعاصرة بالنظر إلى التحوّل الجذري في وضعيتها، هو ثمن الحريّة العاطفيّة الفجائية، ثمن الحب.. حيث كلّما اتسعت الحريّة ضاقت الخيارات.