من كل شوارع أوروبا.. هنا فلسطين!

14 نوفمبر 2023
+ الخط -

75 عامًا، وأنت تحاول أن تقول للعالم إنّني صاحب هذه الأرض، ليس لأنّك غبت عنها قليلًا لا قدر الله، ولكن لأنّ الذين جاؤوا كانت معهم أدوات أكثر للرواية، بروباغندا ودعم غربي وعقدة أوروبية ممن نبذتهم فلا تريد عودتهم إليها، وبالتالي، يمكنهم أن يقولوا أيّ شيء، وأن نصدق أيّ شيء يقولونه، وأنّ هذه المذابح في دير ياسين وغيرها، ليست إلا أعراضًا جانبية ضرورية للحصول على الأرض.

بحّ صوتك، وترهلت حنجرتك، وتوقفت أحبالك عن التردّد في عنقك، والعالم لا يريد أن يفهم، وشعوبه لا يصل إليها شيء إلا من آلاتها الإعلامية الكاذبة، والناس يصدّقون منطق الساسة الذي يقول إنّه لا بد من حل الدولتين، محاولين أن يقنعوا به الطفل المدلّل "إسرائيل"، الذي لا يقول إلا أنّها دولته وحده، كأي طفل يذهب في زيارة إلى بيت الجيران، يسطو على لعبة طفلهم، ويقول "تاعتي"، أي لعبتي، بتاعتي، رغم أنّه يراها للمرة الأولى، ورغم أنّه قد يفعل الشيء نفسه في أيّ بيت يدخله، ولكن لأنّ أهله اختاروا هذه الزيارة اليوم، فقدره أنه جاء إلى هنا.

والفلسطينيون يقولون يا عالم! أيّ دولتين؟ ليس هناك إلا دولة واحدة اسمها فلسطين، وهذا الطفل المدلّل الذي سمحتم له بالمجازر والدبابات أن يحتل 80% منها، يحاول أن يخبركم أنّه لا شعب يجب أن يبقى هنا، إلا شعب إسرائيل المختار، هناك خلل ما، السارق متبجّح إلى درجة لا تصدّق، ومع ذلك تصدقونه!

وطوال تلك الحروب السابقة، في تلك العدوانات المروعة البشعة، كان العالم يصمّ آذانه، فلسطين وإسرائيل في صراع يجلب الصداع ويثير الغثيان، فليُنههِ الساسة كيفما شاؤوا، وليرضَ الفلسطينيون بأن يسكن الإسرائيليون معهم في سلام وأمان وتعايش سلمي، حتى عدوان مايو/ أيار 2021، حين تحرّك هذا الجمود قليلًا، لكن بشكل نخبويّ، بعض المؤثرين الغربيين تفاعلوا مع فلسطين، رأوا الصور وتأثروا فأثّروا، ولكن بقي النطاق محدودًا، وإن كنّا حينها رأيناه يفوق الخيال، وفرحنا به للغاية، ولكن أصبح لدينا معيار جديد نقيس عليه، أصبحت كلّ الانتصارات بجواره صغيرة دقيقة محدودة، اسمه السابع من أكتوبر!

أنا اسمي فلسطين، موجودة منذ آلاف السنين، هؤلاء القوم احتلوني بدعوى محرقتهم الأولى، ليذيقوني أنا مئات المحارق بعدها، ويهجروا أبنائي في شتات العالم

في بدايات السابع من أكتوبر 2023، كانت الرواية الإسرائيلية تمهّد لبروباغندا هولوكوست جديدة، الشعب المظلوم الذي فوجئ ذات صباح "بوحوش تنقضّ عليه وتقتل المئات منه، وهم في بيوتهم ببراءة، الصور مروعة، المشاهد مفجعة، يقطعون رؤوس الأطفال، يحرقون جثث الصغار، يغتصبون النساء". بدت الرواية متماسكة في البداية، اليهود هم اليهود، يتعرّضون لمحرقة جديدة، ومعهم سند تاريخي، وأبناء الشرق الأوسط الإرهابيون بالفطرة، يشبهون أصدقاءهم في الدول الأخرى حيث يرتكبون المجازر بحق الأبرياء ويقطعون الرؤوس، لا شيء مستغرب هنا، حكاية من التاريخ تمارس هوايتها المفضلة بتكرار نفسها مرّتين لا أكثر.

ولكن، بدت تتعالى أصوات أخرى، صغيرة، وخافتة، تُسمع بالكاد، لكنها تصل ولو إلى دائرة صغيرة، تقول: لا، ليست هذه المرة أيضًا، يا عالم، مرحبًا، أنا اسمي فلسطين، موجودة منذ آلاف السنين، هؤلاء القوم احتلوني بدعوى محرقتهم الأولى، ليذيقوني أنا مئات المحارق بعدها، ويهجروا أبنائي في شتات العالم، اسمعوا القصة كاملة.

وبدأت الأصوات ترتفع، ومزاعم الاحتلال تُفنّد، والحقائق تظهر، وعمل المؤثرون كأفضل أداة تحقّق على الإطلاق، المقاومة لم تقطع الرؤوس، (وبالمناسبة أيها العالم اسمها مقاومة)، ولم يحرقوا الأطفال، هذه الصورة مزيّفة بالذكاء الاصطناعي، وبمنتهى الغباء البشريّ، ظنّ الناس أنّ إسرائيل بما لديها من أدوات تكنولوجية فائقة تستطيع تلفيق رواية أخرى أكثر تماسكًا بكثير، أن تصنع زيفًا أكثر منطقية وإحكامًا، ولكن تلك أيضًا إحدى معجزات السابع من أكتوبر/ تشرين أوّل، أنه حيّد عناصر المكيدة لديهم، لأنه كان مفاجئًا ولم يمنحهم وقتًا للتفكير المسبق، كان الوقت أضيق على رقابهم من كلّ شيء، وضُحدت روايتهم، بما فيها ما رواه شيطانهم الأكبر جو بايدن، وكذّبته الحقائق، واعتذر البيت الأبيض، وكذلك قصف المعمداني، وكذلك أعداد الشهداء، كلّ تلك الأكاذيب هوت من علٍ.

بدأت الأصوات ترتفع، ومزاعم الاحتلال تُفنّد، والحقائق تظهر

ثم مع رواج تكذيب تلك الأكاذيب، بدا العالم متلهفًا لسماع الحقائق كاملة، وسمعها، وأحسن الإنصات، فترجم ذلك إلى وعي جماعي رهيب، دفعه دفعًا إلى الشارع، وجعل سُدس سكان لندن تقريبًا يخرجون في مظاهرات لفلسطين، تعم الأرجاء كلّها، وتلقي برواية الإسرائيليين في أعمق مستنقع على وجه الأرض، وتراجعت الرواية الإسرائيلية أكثر وأكثر حتى خرجت شعوب أوروبا جميعًا بلا استثناء تقريبًا، متحدّين قرارات عليا بمنع علم فلسطين، ومنع التظاهر، ومنع التضامن، لكن من يستطيع أن يسجن مليون متظاهر يرفعون علم فلسطين؟ كلّ ذلك أصبح رمادًا تحت أقدامهم الحرّة، المنطلقة في حرارة وغضب ضد القادة الخادعين.

العجيب، والمكسب الذي لم يكن ليتخيّله أكبر حالمٍ على وجه الأرض، أنّ أوروبا، الشعوب لا الساسة، لم تتبنَّ فقط الرواية الفلسطينية، لم تكتفِ بالتعاطف مع غزة والمناداة بوقف إطلاق النار، وإنما كان الانتصار الذي يلهب وجداني، أن ينادوا "فلسطين حرة من النهر إلى البحر"!، نعم؟ بجد؟ من البحر إلى النهر؟ فلسطين كلّها؟ لا حدود الـ67، ولا الـ48، ولا أوسلو ولا موسلو ولا أيّ شيء؟ فلسطين كلّها؟ وليشرب الإسرائيليون من البحر؟ يا إلهي! والله، ولا إدوارد سعيد في أبهى أحلامه كان ليتخيل أوروبا تقول ذلك!

هذه السردية القديمة الجديدة (التي كان أبطالها كثيرين أهمهم الشهداء والجرحى وأهل غزة والمقاومة جميعًا قبل كلّ شيء، ثم الآخرون من بعدهم) هي المكسب الأهم في تلك المعركة، التي برأيي تسبق معركة التحرير الكبرى بسنوات فقط، تمهّد لنبذ ذلك السرطان، ليُطرد بصمت، وليلقى ما يستحق بعد ذلك التاريخ الدمويّ، ولم يبقَ الآن على الأرض في غزة إلا المعركة العسكرية التي ستُحسم قريبًا، بانتصار يخرج له العامة في قارات العالم الستّ، يهللّون لانتصار "أيام غزة" على "75 عامًا من إسرائيل"، وصوت غزة المبحوح على مليون مذياعٍ فائق الصوت مكبرات صوته في عواصم العالم، ومصدره من تل أبيب.