منتخب أمهات اللاعبين!
أتخيّلها تمسح السلّم في ذلك البيت الغريب، تنظف المنضدة جيدًا، تجلي الأواني وتغسل الأكواب، وفي بالها صغيرٌ تخشى أن يتبدل حلمه أيًّا كان، بأضواء أوروبا الخادعة، "نحن لسنا من هنا، وإنما ننتمي إلى هناك، وإلى الشيء الذي يمكنه أن يهوّن قليلًا من انحناءة ظهري كلّ صباح في بيوت الناس، إلى رفع هامتي أمام الجميع، متى أوقظك من أجل النادي يا أشرف؟".
أم حكيمي، وأم زياش، وأم بوفال، وأم بوخال، وأم أوناحي، وأم أمرابط، وأم وليد الركراكي.. كلّ واحدةٍ منهنّ تشاهد مباراة مختلفة عن تلك التي يراها الناس، ترى البساط الأخضر طريقًا إسفلتيًّا طويلًا، والقوائم بلا شباك، والكرة ليس مطبوعًا عليها أديداس، والجمهور ليس ثمانين ألفًا، وابنها الذي يدافع أو يهاجم، كانت تعرف متى سيقطع الكرة، ومتى سيتقدم للأمام، ومتى سيضيّع، ومتى سيصيب ويسجّل، ربما لو أراد الفريق المنافس معرفة مكامن الخطر لاستجوبهن: "متى سيحرز ابنك الهدف القادم؟ هل تشعرين أنه خلال هذه الدقائق حتى نشدّد الرقابة؟". هنّ لا يعلمن الغيب، حاشا لله، لكنهن يلجأن فقط إلى حواسهن الفائقة، التي جعلت الواحدة منهن قبل وقت طويل تنقذ ابنها في آخر لحظة قبل سقوطه أرضًا، أو تصرخ من الفرحة قبل أن تصل الكرة (وهو ابن عشر سنوات) إلى المرمى.
في المدرجات، لا يجلسن بصفاتهن، أمهات وآباء عائلات اللاعبين، وإنما قلوب، ودروب، قطعوها معًا. إنّ هذه الأم حين تحضر، تُستحضَر معها الطرق التي أوصلت هؤلاء إلى هنا، ينظر اللاعب إلى أمه فيتذكر من أين جاء، فيفيق ويعرف إلى أين يذهب حالًا، يتذكر أول إصابة، وأوّل سقوط، وأوّل استسلام، وأوّل استفاقة، وأوّل انطلاقة، وأوّل هدف يعلّق آمال المدرب في وجه الصغير القادم.. يحكي لها ذلك ألف مرّة ومرّة، وينظر إلى أبيه فيجد الرجل الذي كان يصطحبه كلّ يوم إلى ناديه بعد تنقل عسير في المواصلات لخمس ساعات، وانتظار ممل (لم يكن الأب يراه كذلك)، وأوّل حذاء رياضي استدان الرجل من أجله، وسده بأجر عمل ثلاثين يومًا، وأول هدية بطقم جديد، رغم أنّ الحالة لا تسمح إلا بأن نأكل ونشرب.
بينما اللاعب منهم يأخذ "رجل" المباراة، كانت أمه على الطرف الآخر تأخذ لقب "سيدة" المباراة
حين أمسك اللاعب سفيان بوفال يدي والدته لم يكن يراقص أمه في ذاتها، وإنما يراقص الراعي الرسمي له، ووكيله، وحلمه، وشريكة نجاحه الأولى، الزوجة ستدعم، وستكون أجمل صديقة تشجع، أجل، لكن الأم هي التي ثبتت (بالطين) اللبِنَة الأولى، يوم وضعت يديها على بطنها فوجدت فيها كرةً ضئيلة تنمو كلّ يوم، حتى انزلقت تلك الكرة من رحمها وليدًا، ثم رضيعًا، ثم طفلًا يداعب كرةً أخرى، وقد صارت كرة الدم واللحم تتفنن بكرة الجِلد والحلم، وكلّ يوم يكبر الصغير أكثر، ويبقى حجم الكرة ثابتًا، لكن الذي يزيد هو حجم المجانين المنبهرين على الجهات الأربع، يصفقون، ويهتفون، وينادون الصغير باسمه، بعدما كانت سيدةٌ واحدةٌ، كلّ يوم، ولسنوات طويلة، تناديه بصوتها وحده.
سواء وصل المغرب إلى ما هو أبعد، أو قدّر الله له أن يرسو عند هذه المحطة، فقد وصل بالفعل إلى ما هو أبعد من أكثر أحلامنا إشراقًا بكثير، لكن ستبقى المشاهد الخالدة، بعد كل مباراة، في ذاكرة الجميع، في ذاكرة العالم، ولعل هذا كان التكريم الحقيقيّ، قبل أي ميدالية أو جائزة أو كأس، كان الولد منهم بينما يأخذ "رجل" المباراة، كانت أمه على الطرف الآخر تأخذ لقب "سيدة" المباراة، وكان أبوه يأخذ لقب "سيد رجال" المباراة، وينحني لهم الجميع احترامًا، بينما هم يرفعون جبهاتهم المتعرّقة في السماء، لأنه حان وقت بعض الراحة، وأن يلطف الهواء الرباني العرق.. "الآن يا أشرف لن أدخل البيوت لأحني ظهري، وإنما لأصلب طولي رغم حُكم العمر، والله يجبرني، والناس يكرمونني، والزمن يكافئني، من خلالك".
أي تكريم لأي أحد سيكون تكريمًا ثانيًا، بعد التكريم الأول الذي تستحقه كلّ واحدة من هؤلاء، هذا الجيش الذي كان يستحق أن يصل إلى هذه اللحظة التاريخية التي تبحث فيها الكاميرات عنهن كلّ مباراة، اللاعب وحده لقطة، والهدف لقطة، والاحتفال لقطة، لكن لحظة الحضن والتقبيل مع أمه أيقونة، فأيًّا كان مركز الوصول، وأينما كانت سترسو المراكب، فإنّ الشموس التي أشرقت في المغرب هي أول من يستحق اللقب، وأن يُستقبلن في المطار بالورود، أو أن يرفعن الكأس، أو يتقلدن الميداليات، إن كان تفاؤلي مجنونًا، وأن تكون البطولة كلها (لا المقال وحده) بعنوان "منتخب أمهات اللاعبين".