ملف "المرأة والعنف"... إلى المرأة التي لا يوم عالمياً لها! (2)

08 مارس 2023
+ الخط -

في أيام كتلك وغيرها، مواسم للحديث عن "المرأة"، وإحياءٌ لقضاياها، ما صلح منها، وما يعدّ تجاوزاً أو مبالغةً، من الحديث العاقل جدًّا، إلى بعض التطرّف المقابل للتطرّف الذكوريّ، تتعدّد الخطابات والخطَب، ويبقى صبّ الغضب في الموضوع من قبَل المتحدثات والمتحدثين تجاه عدو واحد، هو المجتمع، الخصم الأكبر، ولا شك، لكن ربما لا يتحدّث الكثيرون عن عدو آخر، ربما هو الأهم في تلك المعركة، وربما كذلك لا يتحدثن أو لا يتحدثون عن امرأة أخرى، ربما هي الأكثر أولوية بالمناصرة في هذا الخطاب.

امرأة طيبة، بشوشة الوجه، ترتدي خماراً كاملاً أبيضَ يصل حتى كفيها، تبدو عليها ملامح الصرامة في مواضع الحزم، وتارةً تغلب عليها ملامح الطيبة في مواضع القهر، تجري على بناتٍ لها حُرمن من أخوالهن وأجدادهن، تقف أمام أسوار عالية، خلفها أرقّ المظلومين، وأعتى الجبابرة، ولا حاجة لقَص ما يفعل هؤلاء بهؤلاء؛ تنتهز الفرصة لتعلن كلمة حقٍّ، لو لم تقلها لوقفت في حلقها شوكةً حتى تميتها، فتدفع ثمن ذلك بأن تصير هي الأخرى وراء القضبان، ليس لشيء غير أنها عائشة!

تبحث على الإنترنت عن حيلة تستغني بها عن فوطها الصحية لأن كيلو العدس للأولاد أولى عندها!

امرأة ستينية، تذهب إلى المحكمة محاميةً قديرة لها اسمها المحترم في المجال، ترتدي الروب الأسود أمام رجل عنصريٍّ بطبعه، ليس ضدها وحسب، وإنما ضد البشر جميعاً، الذين يطالبون بحقوق فرضتها لهم إنسانيّتهم، وضمنها لهم الله، تدافع، وتطالب، وتعترض، وتقدم مذكرات، وتقوم بوظيفتها العادية جدّاً، بمهامها الروتينية جدّاً: استئناف، دعوى، طلب، لكن هذا لم يعجب ذكراً ما، يجلس خلف مكتبه الذي يظنه عرشاً فوق عرش الرحمن، فوضعها في السجن، الذي تذهب منه إلى المحكمة، سجينةً لا محاميةً، بالعباءة البيضاء لا الروب الأسود، في سيارة إسعاف لأنّ صحتها في خطر، ليس لشيء غير أنها هدى!

فتاة عشرينية، صورتها فوق حصان، كأنها بعثت للحياة من جديد، بعد مرارة اعتقالَين، تحتفل بحياةٍ حرّةٍ لا بد أن تعيشها، تتنفس من فوق صهوة جَوَاد، تطلق للحياة نظراتها المشرقة، المتفائلةً أنّ شمسًا ما في هذا الوطن المعتم يمكن لها الظهور، لكنها سرعان ما تعود إلى مقبرتها، يخطفونها من فوق حياتها الجديدة، إلى أسفل ضريحها الانفراديّ، ليأتي ذكرٌ آخر، له سلطةٌ، على كتفيه نجوم أو نسر، وفوق مؤخرته كلابشات وصاعق كهربي ومسدس، فيعتدي عليها جنسيًّا، ليس لشيء غير أنها "آية"!

ونساء أخريات، ممددات بحجم ذلك الوطن العريض المكلوم، لا أريد نسيان واحدة منهنّ ولا أن أقع في الأزمة نفسها التي تهتم بأسماء وتتجاهل أسماء، بل أقول كلهنّ، ممن يعشن (أو يمتن) منذ عشر سنوات في ذلك القبر اللعين، بينما يمارس ذكرٌ ما، عليهنّ، سلطته القاهرة، حيث يحب امرأةً معينةً، هي نوعه المفضل الوحيد من النساء، ترقص له في المحافل، وتهتف له في المؤتمرات، وتنتخب اسمه في لجان الانتخابات، وتقبّل وجهه في لافتات الدعاية.

مدونات
مدونات

مدونات العربي الجديد

مدونات العربي الجديد

بينما تثير عصبيّته امرأة ترفض هذا كله، أو لا ترفضه، يكفيه ألا تكون معه حتى تكون عليه، ليسحقها بمخالبه القضائية، ويزجّ بها في بيته الذي يشبه بيوت القتلة المتسلسلين، حيث الشرفة بها أصص للزهورُ ويُشرب بها الشاي والحليب وتُغني فيها امرأة للحب، بينما خلف هذه الشرفة مباشرةً وتحتها مئات الغرف التي تحوي سيدات انقطعن عن الحياة قبل عقد كامل، يحتجزهن، يعذبهن، يقتلهن ببطء، ويسيل من فمه اللعاب والدم معاً، بينما يضحك ويخرج من فمه قيحه، ويقول: "لما المرأة تتكلم لازم كلنا نسمع"، ثم يلطمها لتبتلع لسانها وأسنانها في وقت واحد.

وامرأة أخرى، هي عشرات الملايين من هذا الشعب العريض، التي تكاد تُجنّ مما فعله هذا بالرجال والإناث معاً، لا تدري ماذا تطبخ اليوم لأولادها، ولم يعد بمقدورها طبخ الحجارة كما على أيام عمر، فقد صارت الحيلة قديمة ومكشوفة، كما لن يأتيها الخليفة على ظهره بجرابين من قمح وأرز (خصوصا أن كيلو الأرز اليوم بـ26 جنيهاً)، وكذلك لا تعرف كيف تدبر بيتها براتب الزوج الذي لا تراه إلا ساعتين لطول ساعات عمله، مقابل آلاف لا تزِن شيئًا في محلات البقالة، ولن تأمن الخروج للعمل وقد استحال المجتمع وحوشاً ضاريةً بفعل المجاعة، وربما تبحث على الإنترنت عن حيلة تستغني بها عن فوطها الصحية لأن كيلو العدس للأولاد أولى عندها!

هذه هي المرأة التي يجب أن يضعها الخطاب الذي يدّعي الانتصار للمرأة على رأس أولوياته، وذلك هو الخصم الذي يجب التوّحد ضده قبل المجتمع، فآفة المحكوم من داء الحاكم، هذا الخطاب هو المطلوب لا الذي تتفق فيه "الناشطة النسوية" مع وزيرة تدور في ساقية "سلطة أبوية" حول "حقوق المرأة"؛ لنقف طويلاً أمام المرأة، أيّ امرأة؟ تلك "الرمز" التي يقيمون لها في العام يوماً عالميّاً -وهو حقها ولكن..-، أم تلك المرأة "الحقيقة" التي لا يوم عالمياً لها؟!