مكتبة بغداد: مكتبة افتراضية وكتاب ورقي واحد

10 يونيو 2023
+ الخط -

أملك مكتبة افتراضية ضخمة، ملفاً أصفر على شاشة حاسوبي. أطلقت عليه اسم "مكتبة بغداد". أنقر فوقه نقرتين سريعتين، فأجد نفسي بين رفوف وهمية بلا نهاية...

منذ أكثر من سبع سنوات، وأنا أملأ هذه المكتبة بكلّ أصناف الكتب. كلّما غيّرت حاسوبي حرصت على نقل ملف "مكتبة بغداد"، أوّلاً، إلى الحاسوب الجديد، كمن يرحل من منزل إلى منزل، وأمامه "كراطين" مليئة بالكتب. تخلصت من مكتبتي الورقية منذ زمان. بعض الكتب بعتها، بعضها الآخر نسيته في مكتبات الأصدقاء، والكتب التي نسوها هم في مكتبتي بعتها، بالتالي لم يعد من حقي مطالبتهم بكتبي. بقية الكتب رميتها في القمامة دون أسف.

أحببت كثيراً ديكور البيت ما بعد الحداثي من دون كتب. كتاب واحد لم أستطع بيعه ولا رميه، رواية "عزيزتي أنتونيا" للكاتبة الأميركية، ويلا كاثر. أنشأت مع هذا الكتاب علاقة خاصة جداً، لن أتنكر لها أبداً.

يمكنني الآن القول إنني أملك مكتبة افتراضية ضخمة مُرتبة ومُبوّبة كما يجب (كالمكتبة العامة)، ومكتبة ورقية من كتاب واحد. 

أحبّ كثيرا شعراء أفريقيا، أشمّ داخل قصائدهم رائحة الفيلة في السراب وأسمع طنين ذباب ضخم فوق نباتات جافة

الغريب في الأمر، هو أنّي اعتدت على القراءة أمام الحاسوب، ولا أحنّ أبداً إلى حمل كتاب بين يديّ وتلمّس أوراقه وشمّ رائحته. مثلما لا أحن أبداً إلى الحياة خارج نفسي. لقد ألفت الجليد الداخلي والوحدة والفقد منذ مدة طويلة. أراقب بلذة، انهمار الثلوج على الرابية، وداخل القلب، ولا أتحرّك حتى لا تتزحزح الوحدة والخذلان. لا يغريني شيء في الخارج بفتح النافذة أو الباب. العالم الحديث بارد، وجاف، وأنا أحبّ برودته هذه، وجفافه السيليكوني الخالص.

أوّل كتاب قرأته كاملاً داخل الشاشة هو كتاب "الغريب" لألبير كامي، بعد ذلك قرأت كتاب غاستون باشلار "شاعرية أحلام اليقظة". تشجعت أكثر، فأخذت أتصفح الصحف، والمجلات أيضاً، في الحاسوب. أصبحت أعشق إشعاع الحروف داخل الشاشة، فتوّجت هذا العشق بقراءة "الفتوحات المكية" لابن عربي، ثم أردفته بكتاب "أصل الأنواع" لتشارلز داروين، كمن يتعاطى الهرويين والكوكايين دفعة واحدة. أحب أن أنتهي من كتاب وأبدأ بقراءة كتاب آخر لا يمتّ إليه بأيّة صلة. قرأت كتباً كثيرة أخرى، محدقاً بتركيز في عمق الشاشة الوهمي. ومع الوقت، أصبحت القراءة داخل كتاب ورقي تؤلم عينيّ وتصيبني بالنرفزة، عكس القراءة أمام الشاشة. مثلاً، قبل أن أقرأ كتاب "طبقات المدلسين" لكاتبه الشيخ الحافظ، اخترت حجماً أكبر للخط ولوّنت الفقرات بألوان زاهية، حتى يبدو لي التدليس واضحاً. دواوين الشعر ألوّنها بالفستقي الساطع، والفلسفة ألوّنها بالأصفر فقط، باستثناء شوبنهاور، ألوّنه بالوردي الخفيف كقطعة ناعمة من الساتان. الروايات لا ألوّنها أبداً، أكتفي بتصغير حجم الخط حتى يبدو عدد الصفحات أقل. كتب التاريخ والجغرافيا والموسوعات أملأ بها مكتبتي للزينة، لا أقرأها أبداً، أتصفحها فقط، باحثاً عن الخرائط ورسوم الحيوانات المنقرضة، أفضّل عليها قراءة الفيزياء ومشاهدة صور عارضات الأزياء.

مؤخراً، بدأت أحمّل بعض الكتب الصوتية. استمعت إلى كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" بجزأيه، وأنا مضطجع في فراشي بين النوم واليقظة. أعجبتني كثيراً نبرة صوت الرجل الذي سجّل الكتاب، تشبه صوت أولئك الرجال الطيبين الذين لم يرتكبوا في حياتهم جرماً واحداً. تمنيت أن يسجّل أيضاً "الإخوة كرامازوف" بصوته. أحاول أن أجمع في مكتبتي ألف ديوان شعر من الشعر الذي يعجبني. إن وجدت شعراً عكس ذلك، أنقر فوقه بالفأرة يميناً، وأختار إرساله إلى سطل القمامة وانتهى الأمر. لا أكلّف نفسي النهوض ورميه في سطل قمامة حقيقي، وحين يمتلئ السطل عليّ إخراجه وانتظار شاحنة الأزبال إلخ.. 

مع الوقت أصبحت القراءة داخل كتاب ورقي تؤلم عينيّ وتصيبني بالنرفزة، عكس القراءة أمام الشاشة

أحبّ كثيرا شعراء أفريقيا، أشمّ داخل قصائدهم رائحة الفيلة في السراب، وأسمع طنين ذباب ضخم فوق نباتات جافة. الشعر الأميركي الحديث يصيبني بالغثيان، غثيان الروعة والقوة، غثيان من يشرب الويسكي لأوّل مرة، جرعة قوية من السخط والتكسير والهدم. أن تصف لك الشياطين جمال الجحيم. ذلك هو شعر أميركا. أما أكثر ما يسحرني فهو الأدب والشعر الآسيوي، مقطع واحد من رواية يتحدث عن أزهار الكرز، أو يصف طقوس إعداد الشاي قبالة أحجار الممشى المتراصة في الحديقة بصمت، يمنحني هدوءاً غريباً. الزنّ والهايكو، يجعلانني أجلس في الصالون بطريقة صحيحة مقلّداً جلسة اللوتس. إذا كنت تسأل عمن هو بوذا؟ سيجيبك الراهب: الشجرة في الحوش ذلك هو البوذا...

أجمع أيضاً داخل مجموعتي الشعرية المنتقاة هذه، تلك التي أسميها "محمد السرغيني وجان دمو على الجسر" دواوين شعراء مغاربة وعرب، بعضهم مغمورون وبعضهم مجهولون، وبعضهم مفقودون، وبعضهم موتى أو قتلى. داخل هذا الملف أقتل من أشاء من الشعراء وأحيي من أشاء. مثلا: أُحيي أنسي الحاج، أعطي لسليم بركات تاجاً، ولصلاح فائق تاجاً، ولوديع سعادة تاجاً، وللماغوط تاجاً، ولعبد الله زريقة تاجاً، وأمثّل أنني لم أر شعراء آخرين. التاج الذي فوق رأس المتنبي آخذه منه وأضعه فوق رأس أبي نواس، ثمّ أضع صولجانا في يد إيمان مرسال وعقداً من الألماس على صدر سنية صالح. أمنح سركون بولص فرصة أن يقف فوق ظهور صف طويل من شعراء قصيدة التفعيلة كي يتأمل المساء من النافذة، وأمنح لسعدي يوسف شرف أن يلعب الغولف برؤوس النقاد. بعض الشعراء لا أعطيهم شيئاً ولا يعطونني شيئا. أقرأهم بحذر، وأحبّهم بحذر، وأحذفهم من مجموعتي بحذر.

حين سيتهاطل مطر فوق السهول البعيدة والصحاري، شعراء كثر آخرون رائعون سينبتون كالسفانا في الأراضي المحروقة، وسينتشرون كالملاريا في كلّ مكان وزمان. سنقرأهم، ولو في مناشير قد تؤدي إلى الإعدام، ولو على ورق السكّر، ولو في ملف إلكتروني مليء بالفيروسات. سنقرأهم ونحبهم ونمنحهم التاج والصدارة في قلوبنا. لن يستطيع العالم، أبداً، إيقاف آلة الجمال والحب الحاقدة.. 

سأملأ مكتبتي أكثر بالكتب والمجلدات والمخطوطات... علّني أصل إلى ألف ديوان شعر رائع، وسأحمي مكتبتي هذه (مكتبة بغداد)، وحاسوبي دائما بمضاد قوي لمواجهة جحافل المغول.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.